- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
المؤسسات الدولية وتدمير الدول وهدم الاخلاق والقيم – الجزء التاسع عشر
بقلم: د. عبد المطلب محمد
صندوق النقد الدولي
كما ذكر سابقا اجتمع أعضاء وفود 44 بلدا في بريتون وودز بولاية نيوهامبشاير في تموز عام 1944 وقرروا انشاء مؤسستين تحكمان العلاقات الاقتصادية الدولية في أعقاب الحرب العالمية الثانية فقرروا تأسيس بنك دولي للإنشاء والتعمير من شأنه العمل على استعادة النشاط الاقتصادي في اوروبا الغربية، وإقامة صندوق نقد دولي من شأنه المساعدة في استعادة قابلية تحويل العملات والنشاط التجاري متعدد الأطراف.
وكان الهدف من أنشاء صندوق النقد الدولي هو إعادة تشكيلة المنظومة الاقتصادية والمالية الدولية (والمقصود هنا للدول الاوربية وأمريكا) سعياً لتفادي المزيد من الكوارث الاقتصادية كتلك التي عصفت بالعالم على مدى النصف الأول من القرن العشرين بهدف ارساء نظام أساسي لمراقبة النظام النقدي وضمان استقرار سعر الصرف والقضاء على القيود التي تمنع التجارة الحرة أو تعمل على اعاقتها.
ويقــع مقــر الصنــدوق الرئيســي في واشــنطن العاصمــة ولــه مكاتــب في أنحــاء العــالم. وتحتل الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا مكانة بارزة في سياسات صندوق النقد الدولي وقد هيمنت امريكا والدول الاوربية تاريخيا على مجلس الإدارة. فلدى الولايات المتحدة أكبر نسبة من حقوق التصويت في صندوق النقد الدولي فهي المساهم المالي الاكبر من أي بلد آخر. وعلى مر السنين، تستخدم الولايات المتحدة صندوق النقد الدولي كوسيلة لدعم البلدان ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لمخططاتها الحالية والمستقبلية والتي تتماشى مع سياساتها ومشاريعها من دون الاخذ بنظر الاعتبار المصاعب والحاجة الاقتصادية لتلك البلدان.
وأصبح الصندوق منذ عام 1990 الأداة الأولى والهامة لتحقيق شعار العولمة والتجارة الحرة وبادر منذ ذلك التاريخ بالعولمة الاقتصادية وإجبار الدول على تحرير تجارتها والانضمام لمنظمة التجارة العالمية التي تأسست عام 1995 وأصبح الصندوق ركن العولمة الاساسي مع منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. ويقدم صندوق النقد الدولي قروضا للبلدان التي تواجه مشاكل في ميزان المدفوعات، ويقدم المساعدة العملية للبلدان الأعضاء المتمتعة بالأهلية الائتمانية أي القادرة على سداد ديونها. ويجب على البلدان أن تنضم أولا إلى الصندوق كي تتأهل للانضمام إلى مجموعة البنك الدولي ويبلغ اليوم عدد أعضاء كل منهما (189) بلدا عضوا.
ومع مرور الوقت تحول الصندوق إلى سلطة تسيطر وتتحكم في السياسات الاقتصادية والمالية للكثير من الدول لا سيما دول ما يسمى بالعالم النامي. وبدلًا من أن تؤدي سياسات وبرامج الصندوق إلى تنمية وازدهار الدول النامية، فشلت هذه السياسات فشلا ذريعا في إخراج شعوب هذه الدول من التخلف الاقتصادي والبؤس الاجتماعي وأدخلتها في أزمات اقتصادية خانقة وأغرقتها في معضلات الديون.
في تسعينيات القرن الماضي نشر (مايكل برونو) كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي تقريرا يتهم فيه الصندوق ومنظمات دولية أخرى كالبنك الدولي بخلق أزمات في اقتصاديات دول لا تتبنى سياسة اقتصاد السوق الحر حيث يتم التلاعب في الإحصاءات والتقارير التي تصدرها تلك المنظمات لإظهار أزمات في اقتصاديات دول معينة لاجبارها على زيادة الخصخصة وتسهيل دخول الشركات المتعددة الجنسيات وأكثرها شركات أمريكية والسيطرة على الأسواق وجني الأرباح بسهولة. وقد عمل (برونو) في صندوق النقد الدولي لمدة تزيد على (12) عاماً ثم استقال وحاول تكريس وقته لفضح الممارسات التي تقوم بها المنظمات العالمية وخاصة المالية للتكفير عن الأخطاء التي اقترفها خلال عمله في الصندوق.
فهنالك ما تقوله وتطرحه المؤسسات المالية الدولية من مباديء انسانية وأهداف نبيلة وهنالك ما يتم تطبيقه على أرض الواقع وهو بعيد كل البعد عن تلك الشعارات والاهداف المعلنة. ففي تقريره السنوي لعام 2021 يشرح الصندوق أدواره الرئيسية الثلاثة وهي أولا الرقابة الاقتصادية واسداء المشورة للبلدان الاعضاء بشأن اعتماد السياسات اللازمة لتحقيق الاقتصاد الكلي وتسريع وتيرة النمو الاقتصادي وتخفيف الفقر. وثانيا الاقراض واتاحة التمويل لمعالجة المشكلات المتعلقة بميزان المدفوعات وثالثا تنمية القدرات وتوفير مساعدات تنمية القدرات.
والحقيقة ان أهم أدوار صندوق النقد الدولي هي قدرته على تقديم القروض للدول الأعضاء وبشكل خاص تلك التي تسير على النهج الغربي وتعاني من مشاكل اقتصادية حادة وبحاجة إلى خطة إنقاذ مالية سريعة تتيح لها فسحة من الوقت لالتقاط الأنفاس وترتيب اوضاعها الاقتصادية وعن طريق هذه القروض تصبح الدول والشعوب رهن مخططات واجراءات سياسات الصندوق والدول المتنفذة فيه. فهذه القروض المالية مشروطة بتنفيذ العديد من الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والقاسية بما في ذلك تطبيق سياسات اقتصادية يقررها خبراء صندوق النقد الدولي ويجب على الحكومات المقترضة الامتثال لها وتطبيقها بدون تعديلها أو مناقشتها.
إن القرض الذي يقدمه الصندوق بوصفه شكلا من أشكال الإنقاذ المالي والاقتصادي للبلدان التي تعاني من مصاعب مالية وأقتصادية وديون كبيرة لا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى فتح اسواق البلد المقترض أمام التجارة العالمية الحرة وقد يؤدي إلى سداد البلد للقروض ولكن بأسعار فائدة ضخمة وقد لا يستطيع سدادها وتزداد الديون وتتراكم ليصبح البلد في نهاية المطاف رهن سياسات صندوق النقد الدولي وشروطه المجحفة لتبدأ بعدها منح الدول العاجزة عن السداد قروضا اخرى لغرض السداد. وهذا يعني في الحقيقة الى ان منح تلك الدول قروضا جديدة لا يعني بالضرورة تحقيق تنمية اقتصادية، بل بغرض تمكينها من تسديد ديون صندوق النقد الدولي والفوائد المستحقة عليها.
وتبدأ حينئذ الدورة المالية المدمرة للدول الفقيرة بفرض الصندوق المكاتب الهندسية والمؤسسات الاستشارية والشركات الأميركية أو الشركات التي تدور في فلك واشنطن بتنفيذ هذه المشاريع، أي أن هذه الأموال تعود بشكل مباشر إلى أعضاء دول الصندوق، ويبقى على الدول المستدينة ان تستمر بسداد أصل القرض اضافة الى الفوائد المترتبة عليه. وتكمن خطورة القروض في أن عمل صندوق النقد لا ينتهي بعد منح القرض، بل يبدأ حينها تحت عنوان (المراقبة ما بعد البرامج) بحيث يصبح الاقتراض هو الوسيلة الوحيدة لادارة الجانب الاقتصادي والمالي للدولة المقترضة، ويبدأ بعد ذلك عمل المديرين التنفيذيين الذين يعينهم صندوق النقد بالتحكم بالقرارات النقدية والمالية والاقتصادية، لتصبح الدولة المستدينة تحت السيطرة الكاملة ومن ضمنها قرارها السياسي مقابل تلك القروض المالية.
وتعد القروض التي يقدمها الصندوق أحد أهم الوسائل في انتهاك سيادة الدول التي تقترض منه، حيث يلعب الاقتراض دوراً أساسياً في تقييد الخيارات والاجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدول ذات سيادة ويمهد لإخضاعها لمنظومة مالية واقتصادية دولية تابعة لمصالح الدول الكبرى التي أنشأت هذا الصندوق وتقوم بأدارته. فما من دولة حصلت على قرض من الصندوق واستطاعت إعادة هيكلة اقتصادها إلى المستوى المطلوب. ففي الغالب، تعجز الدول عن تحقيق نهضة اقتصادية أو تنموية، لأن القرض يؤدي بالنتيجة الى تدمير الاقتصاد الوطني للدول المستدينة، ويتسبب بشكل مباشر بتقليص الطبقة الوسطى وتقسيم المجتمع الى طبقة غنية مترفة قليلة العدد والى طبقة فقيرة تمثل غالبية الشعب تعمل ليل نهار من أجل رفاهية الطبقة الغنية.
أن النوايا الطيبة ليس لها وجود في سياقات صندوق النقد الدولي، فالدول تتصور أن بإمكانها أن تحسن اقتصادها من خلال قرض الصندوق، ولكن الأخير يعمل كأي دائن مالي، فهو يصر على فرض شروط الأمان لاسترداد أمواله والبحث عن ضمان قدرة الدولة على السداد، وبالتالي يضع شروطه ويحصل على ضمانات كاملة لتنفيذها، وأولها هو الاطلاع على كل التفاصيل المتعلقة باقتصاد الدولة الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى الموازنة العامة للدولة.
ولكي يحكم الصندوق الدولي سيطرته على الدول المستدينة قام منذ ثمانينيات القرن الماضي بالاتفاق مع البنك الدولي على ما اصطلح بتسميته اتفاق واشنطن. وهو الاتفاق المبني على ثلاث ركائز اساسية هي, تحرير الاقتصاد وحرية التجارة، تطبيق الخصخصة وتصفية المؤسسات الحكومية واجراءات التقشف التي ينبغي اتباعها. وتتضمن أهم شروط الصندوق ما يلي :
- رفع الدعم عن المحروقات وزيادة أسعار الوقود مع عدم الاخذ بنظر الاعتبار تداعيات الأمر وانعكاساته السلبية على القطاعات الاقتصادية والإنتاجية والاستهلاكية.
- فتح السوق المحلية أمام التجارة الحرة وترسيخ نموذج الاستهلاك على حساب القطاعات الإنتاجية وخصوصاً الزراعة والصناعة والأدوية والمواد الغذائية.
- تقليل برامج الخدمات والمعونات الاجتماعية للطبقات الفقيرة والمسحوقة وصولاً إلى إنهاء جميع المساعدات الاجتماعية وخصوصاً المساعدات الغذائية والصحية والتربوية المدرسية والجامعية والشؤون الاجتماعية.
- تقليص حجم الوظائف في القطاع العام والعمل على إعادة هيكلة الوظائف والرواتب وخفضها وتقييدها ومنع أي زيادة عليها إضافة إلى إعادة النظر في الرواتب التقاعدية تمهيداً لإلغائها.
- تحرير سعر الصرف وزيادة معدلات الضريبة على القيمة المضافة وفرض زيادة على جميع أنواع الضرائب.
- تصفية المؤسسات والشركات التابعة للقطاع الحكومي وطرحها للاستثمارات الاجنبية.
- جعل اعتماد التنمية الوطنية على القروض والاستدانة لادخال البلدان في دوامة الديون.
ومن الملاحظ ان الاجراءات التي يطلبها صندوق النقد الدولي لا تختلف عن شروط البنك الدولي فهما وجهان لعملة واحدة. فالإصلاحات التي يوصي بها الصندوق لم تحسن من أحوال الدول الفقيرة إذ يدفع المواطن البسيط ثمن تلك الإصلاحات من خلال ارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائية وتمديد سن التقاعد وتزايد خصخصة القطاعات الحكومية والغاء الدعم والقيود التجارية التي تحمي المنتوج الوطني.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- من يوقف خروقات هذا الكيان للقانون الدولي؟
- ارتفاع سعر صرف الدولار .. استمرار الغلاء الفاحش