- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. الجفاف الروحي بين الأسباب والمعالجات - الجزء الثامن
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
1ـ الإعداد الروحي والمهام العظيمة:
يقع إعداد الإنسان وتهيئة طاقاته وإمكانياته الكامنة في داخل نفسه ضمن عملية معاناة شاقة وكبيرة لإعادة الإنسان وفق نواميس الفطرة والعقل. وهذا الإعداد مكسب كبير ولكنه لايوهب مجاناً، بل إنه جاء نتيجة مقدمات صعبة قام بها الإنسان بمكابدة و مجاهدة النفس ومقاومة إغراءات الحياة. كل هذه وغيرها أهلت تلك الصفوة لقبول أموراً مهمة وتحمل بمقتضاها أشياءً ثقيلة، كما وصفه القرآن الكريم بـ(القول الثقيل)، كما في قوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا). وهذا القول الثقيل هو الذي سيحدث متغيرات وتحولات جذرية في عالم الوجود، وهذه المتغيرات والتحولات يتناسب حجمها ومساحتها التغييرية مع ما يحصل عليه الإنسان من مكاسب الإعداد كما ونوعا، وما أحدثه من إصلاح داخلي وخارجي في نفوس تلك الصفوة التي نذرت نفوسها لهذا التأهيل الكبير.
ولنأخذ أنموذجاً قرانياً طرحته السماء لقبول المتغيرات الكبيرة والتحولات الفكرية والعقيدية والإجتماعية والإخلاقية. وأن من يقوم بهذه المهام والوظائف الكبيرة والقيام بالمشاريع الإستثنائية التي تغير مسارات المجتمع، لابد لصاحب المشروع الكبير من تهيأت من يقوم بمهام هذا المشروع وبيانه، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أراد دينه واحكامه أن تنتشر وأن تصل المعارف الإلهية وتزكى النفوس وتتهذب ويحصلون على أسباب سعادتهم في الدنيا وفي الآخرة عبر الأنبياء والرسل الإلهيّين والأوصياء (عليهم السلام جميعا).
إذن.. فلابد من إعداد تلك الصفوة التي اجتباها الله تعالى، وهذا الإعداد لغرض تحمل ما سيلقى عليهم لأنهم أمام معادلات صعبة، وأمام متغيرات جسيمة فيها من العناء والمشاق الكبيرة جداً، فهي تحتاج الى قلب كبير يستوعبها ويحتوي من حوله، ويتحمل ردود أفعال ثقافات تلك المجتمعات والبيئات الاجتماعية وماتملكه من موروث اجتماعي يتعارض مع أحكام وتعاليم الأنبياء والرسالات الإلهية، وأعظم تلك الإعدادات التي أعدتها العناية الإلهية هو خاتم الأنبياء محمد(صلى الله عليه واله).
وروي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) سأله عن قول الله عز وجل: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) فقال (عليه السلام): (يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدون إليه تبليغهم الرسالة، ووكل بمحمد صلى الله عليه وآله ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصده عن الشر ومساوئ الأخلاق، وهو الذي كان يناديه السلام عليك يا محمد يا رسول الله وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظن أن ذلك من الحجر والأرض، فيتأمل فلا يرى شيئا).
فهذا إعداد تكويني خاص وهو ابتدائي لصياغة عنصر التغيير المرتقب وفق صياغات معدة لذلك من قبل السماء، ويؤكد هذا المعنى ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله عزوجل أدب نبيه، فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: (وإنك لعلى خلق عظيم). وهذا يكشف عن وجود حالة روحية واستعدادات معنوية لقبول الفيض الإلهي.
2ـ الاعداد الالهي والتكامل:
إن الإعداد الإلهي الذي جاء بخطاب الإصطفاء والإجتباء، وهو الذي يعبر عن نظام الإختيار والتفضيل الذي يراد منه إبراز القيمة الحقيقية للإنسان في عالم الوجود والتي يكون مصدرها هو الإرتباط بالله تعالى والتي تبلغ بالإنسان الى أعلى درجات الرشد و الإدراك الذهني والتبني لأعلى القيم الإنسانية في الحياة. قال تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين). وقوله تعالى (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء)، لذا فإن المحتوى القراني يسجل هذه القيمة العالية والمكاسب التي يحصل عليها الإنسان بأنها لم تأت جزافاً بل جاءت وفق منظومة فكرية وممارسة لإتجاه خاص مع رب السماوات والأرض: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
وكانت هذه المكاسب نتيجة و جود إتجاه معرفي (معرفة الله) يترتب عليه نمط سلوكي (العبادة والتوجه إليه تعالى)، والإعداد الإلهي يشكل أنموذجاً ليمثل قمة الرشد فحينها يكون هو أفضل البدائل أمام خيارات معروضة تلك التي تؤدي الى إنعدام الرؤية الواضحة عن تحديد الإتجاه السليم, وبالتالي الإنحراف والظلال عن الحق، قال تعالى: (ان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله). وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ). وقوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ). وايضاً ما جاء في دعاء الندبة الوارد عن الإمام الثاني عشر (عجل الله تعالى فرجه): (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ قَضَاؤُكَ فِي أَوْلِيَائِكَ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَ دِينِكَ، إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزِيلَ مَا عِنْدَكَ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ ولَا اضْمِحْلَالَ ، بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجَاتِ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِهَا وَزِبْرِجِهَا، فَشَرَطُوا لَكَ ذَلِكَ، وَ عَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ فَقَبِلْتَهُمْ وَ قَرَّبْتَهُمْ).
إذن.. النبي (ص وآله) هو خاتم الذين خضعوا للإستخلاص والتربية والإعداد الإلهي وهو المصطفى المختار من قبل السماء لهداية البشرية ورحمة للعالمين، من هنا كانت مشروعية الإختيار كي لا يكون متأثراً بالأجواء الإجتماعية وثقافات البيئة التي يعيش فيها وما فيها من رؤى وأفكار. فهذا الإعداد والتهيؤ هو الذي يولد الإنسان المتكامل والموجّه والمرشد والمربي للبشرية الذي امتاز عن غيره، قال تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ). لذا فان الإصطفاء يقوم على أسس عالية جداً من الدقة، بل هو حق اليقين لأن مصدره عالم الغيب، لصناعة القيم العالية التي يتكامل فيها الإنسان من أجل وضع ضمانات النجاح لقيادة البشرية وسعادتها في الدنيا والاخرة وأن لا ينجر الانسان انجراراً اعمى في الاختيارات السيئة، فكانت التربية الروحية لصناعة الأنموذج الكامل القادر على تطبيق و سيادة القيم الإلهية والأخلاقية الفاضلة في المجتمعات البشرية والتهيوء لأعباء الحمل الثقيل الذي سيقوم به.
3ـ الإعداد الروحي وتلقي القول الثقيل:
إن التربية الروحية هي إعداد الإنسان لحمل أعباء القول الثقيل لمواجهة اغراءات الحياة ومزالق الطريق ومواجهة الفتن، وتحمل المشاق والمصاعب. وأبرز مصداق للتأهيل والإعداد الإلهي لحمل مهام الرسالة هو إعداد النبي (صلى الله عليه واله) فكان الانموذج للتعبئة الروحية، وقد بينتها آيات سورة المزمل المباركة التي أعدت النبي (صلى الله عليه واله) للمرحلة الشاقة والعسيرة التي سينوء بحمل أعبائها، و آيات هذه السورة المباركة تأمر النبي (صلى الله عليه واله) بالقيام بأعمال تشكل قوام عمله الكبير، وأن نجاح هذا المشروع الإلهي لابد له من شخصية ناجحة جداً من خلال تربية النفس، وتهذيبها، ليعد نفسه لتلقي القول الثقيل، و هذا لايتم إلا من خلال إيجاد مقدمات مهمة وبناء ذاته بناءً مرتبط بالله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ () قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا).
إذن.. الإعداد وبناء الذات وتربية النفس هو نظام مجعول بجعل إلهي، وهذا النظام والجعل يقوم على عناصر مهمة و اختيارات لبناء الشخصية ونجاحها:
العنصر الأول:
هو عنصر الزمان حيث ان منهج التربية اعتمد على الزمن وهو القيام بإحياء الليل، وأنه هو وقت القيام لبناء الذات: (قُمِ اللَّيْلَ الا قليلا..). فهو الظرف الزماني الذي من خلاله سيحقق الرتب العالية: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا). وأن هناك مكاسب معنوية سيحصل عليها الإنسان لقلبه وروحه، وكما ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (إن الوصول إلى الله عزوجل سفر لا يدرك إلا بامتطاء الليل). فوسيلة السفر ومركبه هو الليل.
العنصر الثاني:
اختيار مادة الظرف الزماني، وهي صياغة برنامج عبادي مكثف: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، حيث إن قراءة القرآن بتدبر وتفكر والتأمل في كلماته والتوقف عند معانيه هي من أبلغ الوسائل التربوية لصلاح الإنسان واستقامته وتقوية إيمانه، وإن هذه القراءة هي التي أرادها الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها). وهي التي تمنح الإنسان التقوى وتبني فيه منهجاً فكرياًً سليماً. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يبين معنى ترتيل القرآن، فيقول عليه السلام: (بينه بياناً ولا تهذه هذ الشعر ولا تنثره نثر الرمل، ولكن أقرع به القلوب القاسية). حيث أن قيام الليل وإحياءه بالعبادة والتهجد، له الأثر المهم في نقاء الروح وتربية النفس معنوياً، وأن قيام الليل والإنقطاع الى الله، والأنس به تعالى بمناجاته هو من شأنه أن يهيأ الإنسان لتلقي الفيوضات الإلهية، واستقبال القول الثقيل، هذا كله بعد انتظام المنهج، بشطريه: الظرف الزماني (الليل) ومادة الظرف وهي البرنامج العبادي (إحياء الليل وقيامه وترتيل القران..). وهذه لها آثاراً: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا), أي: أن عبادة الليل تترك تأثيراً اكثر رسوخاً في روح الإنسان، وتهذب نفسه وتربي فيه الإراة القوية وصلابة الموقف، لأنك أيها النبي ستواجه أمرين:
الأول: هو إننا سنُلقي عليك قولاً ثقيلاً
الثاني: ستواجه المحن والمصاعب فلابد لك من الطاقات المعنوية والملجأ الحصين الذي تلجأ اليه وهو القرآن الكريم والإنقطاع إليه تعالى في ظلمات الطرق والمسالك التي يحيكها الضالون والمنحرفون عن جادة الحق.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول