- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. القيم الروحية بين العروج والهبوطـ - الجزء العاشر
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
عوامل كثيرة تتجاذب قلب الإنسان فتحدد مصيره في الحياة بناءً على تغير معادلات أنماطه الفكرية والسلوكية، ومنها الإيمان والكفر على رأس تلك العوامل، فيؤثران في حياته تأثيراً كبيراً، وعندئذ لا تخلو حياة الإنسان واحدة من حالات ثلاث:
الأولى: الثبات والإستقرار
الثانية : النكوص والتراجع
الثالثة: العروج والصعود
فقلب الإنسان يعيش بين العاملين المذكورين (الكفر والإيمان) وبين النتائج والحالات الثلاث وسبب هذه الثلاثية المنتجة التي ذكرناها هي: (الشيطان، النفس الأمارة بالسوء، زخارف الدنيا وإغراءتها). هذه عوامل قد تجر الإنسان إلى الإنتكاسة والهبوط القيمي وقد تأخذ به الى الصعود والإرتقاء في سلم المعنويات، لذا فإن قلب الإنسان هو مصدر الإرتقاء وهو مصدر التراجع والسقوط. فهو يقع في معرض التغير والتبدل والتقلب لذا سمي قلباً لتقلبه من حال الى حال، إلا ما عصم الله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وقوله تعالى: (وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) وقوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ () ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ () إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). فعمر الإنسان يتصف بصفات وهذه الصفات قد تسقط روحه ويصيبها النكوص والخمول والضعف والمرض والضجر، وهي أعراض مرضية تصيب روح الإنسان تعرض على قلبه فتحتاج إلى علاج والعلاج هو التوجه إلى الله تعالى دون أن يكترث بشيء أو يضع في حساباته المادة والجسد أو أثر معين أو اهتمام لعلاقات الناس بل يسعى الى انتشال روحه من حبائل المادة العمياء بوضعها على سكة الحق الإستقامة.
من هنا نرى أن حياة الأولياء (ع) أنه لا ينقطعون عن حركة الروح في كل حالاتهم وفي عموم اعمارهم. فهذا علي صلوت الله وسلامه عليه وهو المعلم الثاني للبشرية بعد النبي( ص وآله) نراه يقوم الليل قائماً وقاعداً تالياً للقرآن مناجياً ربه وفي النهار مكافحاً في ساحات العمل والجهاد وإدارة أمور المسلمين وحل مشاكلهم حيث يطلب منه ذات مرة أن يستريح شيء ما فيجيب( ع) على ذلك فيقول: (إن نمت النهار ضيعت رعيتي وإن نمت الليل ضيعت نفسي)، و في الشطر الثاني من كلامه (ع) يقول: (ضعيت نفسي)٠ فيشير الى ذلك البعد الروحي المهم عند الإنسان، وهو أن علاقته مع الله عز وجل مستمرة وباقية مهما كانت الظروف والأزمات، والشدائد التي تعصف بالإنسان، ووصف فقدان هذه العلاقة بالضياع فهو الخبير البطين(سلام الله عليه) بأن وصف حالة الفراغ الروحي والإنقطاع عنه عز وجل بأنه ضياع لأن من يبتعد عن الله عز وجل سيضيع في امواج البحر المتلاطم حيث الأفكار الفاسدة و العقائد الباطلة، فالإمام علي صلوات الله وسلامه عليه أراد أن يؤسس قاعدة في سلم التكامل المعنوي بأن صيانة الإنسان وتكامله هو الذي يتجسد في الجوانب الروحية كالعبادة والتهجد وقيام الليل وقراءة القرآن كلها عوامل تبني شخصية الإنسان روحياً وحافظة له من الضياع وعاصمة له من الإنزلاقات الخطيرة في عالم تفتك به مخالب وحش الشهوات وتعصف به رياح فتن المادة العمياء.
في موضوع الجانب الروحي عند الانسان, تحدثنا سابقاً عن مسألة مهمة نواجهها جميعاً، وهي إننا نعيش تجاه قوانا الروحية وديننا وإيماننا بالله تعالى حالات ثلاث هي: ( الثبات، النكوص، العروج)، ولابد من نرفض الحالة الثانية لانها حالة الإنتكاسة الروحية الخاسرة لا سمح الله، وأن نقبل الحالة الأولى على أقل الإحتمالات ونحافظ عليها، ونصعد الحالة الثالثة ونحاول استزادتها ما أمكننا ذلك وبكل الوسائل: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
أي إننا نسعى دائماً لمزيد من تقوى ألله عزوجل مع الحفاظ على ما اكتسبناه: (من أداء الفرائض الإلهية، أعمال الخير والبر، الأعمال المستحبة، اجتناب المعاصي والذنوب..)، فان أعمال الإنسان قد تتعرض الى التلاشي والإنتهاء والإحباط وقد تصبح لا سمح الله لا قيمة لها عند الله عزوجل وترد علينا، وأن الروايات الشريفة بينت هذا المعنى كثيراً وكيف أن بعض الأعمال السيئة تحرق حسنات أعمالنا الصالحة وتبطلها، ولا نتعرض إليها لضيق الوقت، ومن الواضح جداً أن حقيقة الإيمان في مدرسة أهل الببت عليهم السلام مركبة من ثلاثة ركائز هي:
ـ الإعتقاد القلبي
ـ الإقرار اللفظي
ـ العمل والسلوك
هذه مراتب الايمان الثلاث، فالإيمان يدور مفهومه مدار وتحقق هذه الركائز المهمة، فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع): (الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالأركان)، وما ورد عن الامام الصادق (ع): (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما خلص في القلوب وصدقته الأعمال).
اذن هناك تلازم بين الركائز الثلاث لإستكمال حقيقة الايمان، وهناك حديث ورد عن النبي (ص واله): (من أسبغ وضوءه وأحسن صلاته وأدى زكاة ماله وخزن لسانه وكف غضبه واستغفر لذنبه وأدى النصيحة لأهل بيت رسوله فقد استكمل حقائق الإيمان وأبواب الجنة مفتحة له)، فهذا الحديث الشريف يبين حقيقة الايمان وأنها مركبة من جملة من العبادات والأعمال، وإتيان الأعمال والطاعات يختلف من شخص الى اخر، وهذا يعني يوجد تفاوت في أصل العمل، إضافة أن هناك تفاوت كمي في نفس العمل المؤدى، وسبب هذا التفاوت مستعدة إلى ايمان الإنسان، وهذا ما تبينه الروايات الشريفة منها:
ما ورد عن عبد العزيز القراطيسي أنه قال: قال لي أبو عبد الله (ع): (يا عبد العزيز إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الإثنين لصاحب الواحد لست علي شئ حتى ينتهي إلى العاشر).
وعلى هذا تتفاوت درجات الإيمان ضعفاً وقوتاً، وقد أشار القرآن الكريم الى هذا المعنى وأن الإيمان هو في معرض الإزدياد، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا), بل عندما مدح أصحاب الكهف وأثنى على تضحياتهم في سبيل عقيدتهم وإيمانهم بالله تعالى، أن سبب ذلك هو قوة إيمانهم وأن الله عزوجل زادهم ايماناً مع إيمانهم،: (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى).
ومن هدي القرآن والنبي وأهل بيته عليهم السلام نستفيد أن الإيمان والجانب الروحي يمكن الإستزادة منه أكثر فأكثر والتسابق لحصوله, كي نواجه به شهوات النفس ونكبح غرائزها، ونلتفت الى إغواءات الشيطان وإغراءات الدنيا وزينتها.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول