بقلم: د. ريم فيصل جرجيس
في الوقت الذي من المفترض أن يسير الاقتصاد العراقي وفق تخطيط استراتيجي يرسم مسارات التنمية، ويضع الخطط والبدائل والحلول الناجعة لمشاكل العجز والفقر والبطالة ومعالجة الاختلال في ميزان المدفوعات وما يلحق ذلك من تضخم ومديونية…الخ، نجد ان المشاكل الاقتصادية البنيوية تقف عائقاً امام محاولات الإصلاح والنهوض.
وما بين رؤى تنموية طموحة وخطط خماسية تطلقها الحكومات المتعاقبة، يقف الواقع مثقلاً عاجزاً اما تضخم الإنفاق والبطالة المقنعة والفساد الهيكلي، والسؤال المصيري هنا، هل بالإمكان ان يخرج العراق من هذه المشكلة البنيوية المركبة؟
يعاني الاقتصاد العراقي من اختلالات هيكلية عميقة، يتمثل أبرزها في ما يعرف بــ(الترهل الاقتصادي) وهو تعبير يشير إلى التشوهات التي تصيب بنية الاقتصاد الناتجة عن اعتماد مفرط على النفط، يقابله في ذلك التضخم في النفقات الحكومية وتراجع الإنتاجية، وعلى الرغم من أن الحكومات العراقية المتعاقبة ومنذ العام 2003 وضعت عدة خطط استراتيجية للتنمية، أبرزها كان خطة التنمية الوطنية (2010 -2014) والرؤية الوطنية للعام 2030، فضلاً عن برامج إصلاح اقتصادي بالتعاون مع البنك الدولي، تضمنت أهدافاً طموحة مثل التنوع الاقتصادي وتمكين القطاع الخاص وإصلاح الدعم، الا انها اصطدمت بواقع إداري مترهل.
وهنا يكمن التناقض الخطير بوضع الخطط الاستراتيجية على الورق لكن التنفيذ يتم عبر سياسات مشوهة تجهض اي تقدم تنموي حقيقي.
ان غياب عملية التوازن بين التخطيط الاستراتيجي للاقتصاد التنموي ورسم السياسات العامة للبلد وفق الامكانيات والموارد المتاحة ضمن البيئية الاستراتيجية للمنظومة الاقليمية وغياب الارادة الفعلية للنهوض بالواقع المرير ادى إلى مشاكل تراكمية مركبة، اهمها العامل الاقتصادي (كاقتصاد بحت) وعملية ادارة الدولة.
ورغم عملية التوظيف الواسعة النطاق في القطاعات كافة ورفع نسب المرتبات بالشكل النسبي، الا ان المشكلة الاقتصادية لا زالت قائمة متمثلة في الكثير من القضايا المهمة، مثل تراجع مؤشرات النمو غير النفطي واستمرار العجز في الموازنة حتى خلال فترات انتعاش أسعار النفط، إلى جانب ضعف جذب الاستثمارات نتيجة البيئة غير المستقرة لأسباب سياسية، الا ان ذلك لم يسهم في حل المشكلة بل ساعد في تأصيلها وتعميقها.
وفي هذا السياق تبرز الحاجة الماسة إلى تأسيس مجلس أعلى للتخطيط الاستراتيجي الاقتصادي يتمتع بالاستقلال التام عن الحكومة التنفيذية، واعتماد خارطة طريق تنموية تتجاوز الأطر الزمنية للحكومات، وربط الخطط بالموازنات المتوسطة والطويلة الأجل، مع ضمان مشاركة المحافظات في التخطيط اللامركزي وتبني سياسات شفافة في تنفيذ الخطط بالتنسيق مع منظمات دولية، بما يعزز فعالية التخطيط ويعكس توجهاً إصلاحياً يستند إلى مقومات الحكم الرشيد والتنمية المستدامة، بمعنى (دراسة معمقة موضوعية لوضع الحلول، وفق رؤية اكاديمية بمنهجية علمية معتمدة على بيانات واحصاءات..الخ).
وعليه لم يعد التخطيط الاستراتيجي رفاهية أو خياراً ثانوياً لأي اقتصاد، بل ضرورة وجودية لضمان بقاء الدولة وتماسكها، وبذلك ستضل الدولة تدور في دوامة (ارتفاع او انخفاض اسعار النفط، الفساد، البطالة، العجز، المديونية، التضخم….الخ).
إن الاقتصاد العراقي يقف على مفترق طرق بين التخطيط الاستراتيجي الذي يعد بالنهضة، والترهل المؤسسي الذي يسحبه ويجره للخلف، وبذلك لن تنجح أي خطة للتنمية ما لم تقتلع جذور (الفساد، والمحسوبية، والمحاصصة..الخ)، ويعاد بناء مؤسسات الدولة على أسس الشفافية والكفاءة، فالمشكلة لم تعد في التنظير ووضع الخطط، بل في عجز الدولة عن التنفيذ ضمن بنية اقتصادية سليمة.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!