- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
هويتنا الثقافية في مواجهة الطوفان
بقلم: حسين فرحان
"اننا نشهد في هذه الايام تزايد الحملات على شبابنا لطمس هويتهم الثقافية والوطنية والدينية".. كلمات تضمنتها احدى خطب الجمعة التي ألقيت في الصحن الحسيني الشريف.. كلمات تذكر الأمة بمسؤولياتها تجاه واقع مرير يستهدف به الأعداء كل مقومات هذه الهوية، وقد لوحظ أن الخطبة قد أكدت في مضامينها على شريحة الشباب لما لهذه الشريحة من قيمة عظيمة في المجتمع وما يمكن أن يكون الحال عليه فيما لو انهارت فيه هذه الهوية بمفاصلها الثقافية والوطنية والدينية.. وللمتابع أن يلاحظ أيضا ذلك التعبير الدقيق الذي جاء في هذا النص وهو عبارة: "تزايد الحملات" ليفهم من ذلك حالة الاستمرار لمحاولات طمس الهوية وليس الحديث عن أمر جديد، فتاريخ هذا الاستهداف والاساليب التي استخدمت فيه كثيرة وطرق التصدي له كانت قد اختلفت كذلك من مجتمع لآخر بحسب شدة الهجمة من جهة ومدى قوة ايمان المجتمعات وتمسكها بهويتها من جهة أخرى، لذلك نجد في عبارة: "تزايد الحملات" مايدفعنا لقراءة تاريخية يمكن أن نلاحظ من خلالها -ولو بأمثلة محددة- مدى خطورة مثل هذه الحملات وتأثيرها على مجتمعاتنا بكل فئاتها وبصورة عامة ولنعرف ما ينبغي علينا فعله.
فمن الشواهد التاريخية -مثلا- قيام لويس التاسع الملك الفرنسي –بعد فشل حملته الصليبية السابعة سنة 684 هجري- بكتابة وصيته التي يعدها البعض دستورا وميثاقا مقدسا وطريقة مثلى لاحتلال الشعوب الاسلامية على نحو خاص، فقد أُعلن فيها صراحة أن المعني بها هو هذا الدين وهذه الشعوب، ووردت بهذا الشكل:
"أوصي بني قومي ألا يقاتلوا (الكفار) –يقصد بذلك المسلمين- في ميادين القتال المفتوحة، فنيرانهم حامية ولايستطيع أحد أن يقوم لهم، والسر وراء قوتهم وصمودهم يرجع الى تمسكهم بعقيدتهم ودينهم، وانكم لن تنتصروا عليهم الا اذا قطعتم العلائق بينهم وبين مصدر قوتهم، وصرفتموهم عن عقيدتهم ودينهم".. هذا ما كتبه لويس الفرنسي في وصيته.. لذلك ورغم اعتماد الاعداء على القوة العسكرية في كثير من غزواتهم الا ان بنود وصية هذا الملك لم تفارق ثقافتهم في موارد اخرى وأزمنة اخرى وجدوا فيها عدم جدوى المواجهة العسكرية، فالحرب على طريقة لويس تؤتي ثمارها وربما بشكل أفضل خاصة مع استخدام أدوات ناعمة تتخذ مظهر الحضارة والتقدم والتكنولوجيا وتتزين بالمصطلحات الغربية التي يحلو للبعض تكرارها استعراضا للمهارات الببغاوية في ترديد ما يقال دون ادراك لما يراد من اشباع الادمغة بها.. ولعل واحدة من هذه الاساليب ان تحتضن البلاد الاسلامية المدارس التبشيرية او فروعا للجامعات الغربية بلا قيود ليقضي فيها الطلبة سنوات من الدراسة مشوبة بطباع لا تمت لهويتهم وخصوصيتهم بصلة.. ففي مصر واثناء الاحتلال البريطاني لها كان الحاكم العسكري (كرومر) يؤكد على فتح مدارس تغريبية بكل ما تحمله من قيم دخيلة تتغلغل الى المجتمع عبر الشباب بدعوى تلقي العلوم الحديثة ومواكبة الغرب.
حتى ظاهرة الاستشراق التي اخرجت للعالم كتبا ومجلدات وبحوث حول الشرق وعاداته وتقاليده ومعتقداته، لم يكن الهدف منها التعريف بهذه الثقافة بطريقة تراعي الامانة العلمية المجردة بل كانت –وكما يعتقد البعض من المثقفين- وسيلة من وسائل التحصين الفكري للعقل الغربي تجاه الفكر الاسلامي وتزويده بكل اسلحة المواجهة الفكرية وحمايته من ان يتأثر بأي شكل من الاشكال بهذا الفكر فيما لو دخل غازيا أو حتى سائحا في هذه البلاد، فتلك حصانة فكرية قدمها الاستشراق لحماية مجتمعات الغرب مع وجود حالات لتحول بعض الجيوش الغازية الى الاسلام وعودتهم به الى ديارهم كما حدث في بعض الحروب الصليبية او حروب التتار والمغول التي كسرت قاعدة تأثر المغلوب بالغالب لتجعل من الغالب متأثرا بثقافة المغلوب.
من الشواهد التاريخية الاخرى على شدة الحذر الغربي والخوف من احتفاظ الشعوب الاسلامية بهويتها الثقافية ما جاء في وثيقة لوزير المستعمرات البريطانية (أورمس غو) الصادرة سنة 1938 والمحفوظة بالمركز العام للوثائق في لندن: "ان الحرب علمتنا أن الوحدة الاسلامية هي الخطر الاعظم الذي ينبغي على الامبراطورية ان تحذره وتحاربه، وليست انكلترا وحدها هي التي تلتزم بذلك بل فرنسا ايضا".
ويقول (نيكسون) وهو احد رؤساء الولايات المتحدة سابقا: "اننا لانخشى الضربة النووية، ولكن نخشى الاسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب" وقال ايضا: " ان العالم الاسلامي يشكل واحدا من اكبر التحديات السياسية للولايات المتحدة الامريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين".. وقال في احدى مذكراته: "ليس أمامنا بالنسبة للمسلمين الا أحد حلين: الأول: تقتيلهم والقضاء عليهم، والثاني: تذويبهم في المجتمعات الاخرى المدنية والعلمانية.
ويقول "غلادسون" رئيس وزراء بريطانيا سابقا: "مادام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين فلن تستطيع اوربا السيطرة على الشرق".
ويقول (مورو بيرجر) في كتابه (العالم العربي المعاصر): "ان الخوف من العرب واهتمامنا بالامة العربية ليس ناتجا عن وجود البترول بغزارة عند العرب، ان الاسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في العالم شرقه وغربه".
أما الذين يركزون على (حرب الافكار) بل ويعدونها من الحروب المهمة التي ينبغي استخدامها لطمس الهوية الثقافية للمجتمعات الاسلامية فمنهم –على سبيل المثال- (زينو باران) الباحثة التي تعمل في موقع مركز (نيكسون) الذي صدر عنه تقرير بعنوان: (القتال في حرب الافكار) واعتمد عليه –بشدة- دونالد رامسفيلد وكان يصرح بأهمية غزو العالم الاسلامي ثقافيا.. ومنهم ايضا (فيليب فونداسي) رئيس المكتب الخامس الفرنسي لمصلحة التجسس الفرنسية الذي قال في مقدمة كتابه: (الاستعمار الفرنسي في افريقيا السوداء): "ان هذا الاسلام يؤلف حاجزا امام مدنيتنا المبنية كلها من مؤثرات مسيحية ومن مادية ديكارتية، فأن الاسلام يهدد ثقافتنا في افريقيا السوداء وعلى الرغم من أن بعض النفوس المتسامحة تميل بطبيعتها وعن رضا منها الى عدم تقدير هذا الخطر (الاسلام) حق قدره فأنه يبدو في الظروف الحالية للتطور الاجتماعي والسياسي لعالم البشر أنه من الضروري لفرنسا أن تقاوم الاسلام في هذا العالم، أو تحاول –على الأقل- حصر انتشاره وأن يعامل وفق أضيق مباديء الحياة الدينية.
هذه باختصار شديد أمثلة وشواهد لرؤية الآخر لهويتنا الثقافية التي من أهم ركائزها الدين الاسلامي الحنيف، وهذه هي انطباعاتهم السائدة ومخاوفهم وهذا جزء مما أسسوا له في سبيل محو هذه الهوية، فهل سنكون بقدر مسؤولية المواجهة أم أننا سنتقاعس عن أداء واجبنا تجاه أبناءنا وبناتنا؟ هل سندرك أهمية هذه المواجهة؟ لربما سيتصور البعض أننا حين نعترض على مظاهر مخلة بالذوق العام تطرفا.. وربما نتهم بالتخلف وعدم مواكبة التطور خصوصا مع انغماس أغلب المجتمعات الاسلامية في وحل الهزيمة الفكرية واستسلامها لمتطلبات العولمة وانشغالها بالفقر والازمات والضرائب والقمع السياسي، لكننا وبأعلى مستويات الوعي ينبغي أن نحافظ على هويتنا الثقافية في بلدنا وأن لا نقف مكتوفي الايدي أمام محاولات شيطانية تتبناها جهات مشبوهة لنشر ثقافة الانحلال والشذوذ والتمرد على المقدسات والقيم باقامة حفلات ومهرجانات لا تستقطب الا من ذابوا في عالم غير عالمهم واعتنقوا فكرا هجينا لا هوية له سوى عنوان باهت يدعى القرية الصغيرة أو القرية الكونية (الكوسموبوليتية) أو الكوكبية أو العولمة وما أكثر صفاتها وعناوينها واسماءها.. سمها ما شئت فالنتيجة هي السقوط الحضاري المدوي حيث تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها.
"اننا نعتز بهويتنا واستقلالنا وسيادتنا".