بقلم: حسن مدن - كاتب بحريني
أخيراً تحقق الحلم. قرّت العين برؤية بغداد بعد عقود مرّت على رؤيتي لها آخر مرة، قبل نحو خمسة وأربعين عاماً. عشت في بغداد عاماً كاملاً مطالع الشباب، توزع بين عامي 1976 – 1977. كان عمري يومها نحو عشرين عاماً، وزرتها بعد مغادرتها مرة أو مرتين. بعدها أصبحت بغداد عصيّة. واحدة من أولى المدن العربية التي بتنا نتوق إلى رؤيتها، ولكن الظروف تحول دون ذلك.
لم تسعني الفرحة حين وصلتني دعوة، مشكورة ومقدّرة، لحضور معرض العراق الدولي للكتاب، من مؤسسة المدى، منظمة هذا المعرض، والمشاركة في لقاء ثقافي مع الجمهور. الفرحة تضاعفت مرات، حين وجدتني أخطو خطواتي الأولى في مطار بغداد، الذي كنت أحسب أني أعرفه جيداً. لكني في الحق لم أعرفه، ليس لأنه تغيّر، فقد بقي على ما كان عليه، تقادمت عليه العقود، لكننا لا نرى الأماكن بالعين نفسها حين تفصلنا عنها السنوات الطوال، فما بالك بالعقود. لقد خبرت هذا الشعور من قبل، غير مرة، فرؤية الأماكن والأشياء التي بعثت على حنين طويل، يفجّر دواخلنا حنيناً آخر إلى صورة تلك الأشياء والوجوه كما رأيناها أوّل مرّة، أو بالأحرى آخر مرّة.
كنت محظوظاً أن رحلة الطائرة التي سافرت عليها كانت نهارية. حين أعلن فريق الطائرة أنه بدأ الاستعداد للهبوط في مطار بغداد، انتقلت من حيث كنت أجلس إلى المقعد الملاصق للنافذة، الذي كان فارغاً لحسن الحظ، ورحت أحدّق في الأسفل. كانت بقايا ضباب تحجب الرؤية في البداية، قبل أن تخترقها الطائرة، ونجد أنفسنا وسط سماء صافية، فبدت بيوت بغداد في الأسفل، تتخللها أو تجاورها مساحات لافتة من الخضرة، لا تجدها في مدن أخرى.
كنت محظوظاً أيضاً أن بغداد كانت، طوال الأيام الأربعة التي مكثتها فيها، مشمسة، بعد مطر عرفته قبل وصولي. حين خرجنا، رفقة من استقبلني في المطار، إلى خارجه، شعرت بنسمات باردة، منعشة، تضفي على ذلك الجو المشمس بهجة وانتعاشاً.
«الشمس أجمل في بلادي من سواها»، تذكرت، لحظتها، بيت بدر شاكر السيّاب هذا الذي جاء في قصيدة حنين إلى العراق، الذي كان بعيداً عنه ولو قليلاً، في الكويت يتلقى العلاج في الأسابيع التي سبقت رحيله. الأشياء والوجوه تحت شّمس العراق الشتوية مختلفة، ربما لأنها باعثة على حنين لزمن كان أجمل... للحديث تتمة غداً.
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- تفاوت العقوبة بين من يمارس القمار ومن يتولى إدارة صالاته في التشريع العراقي