- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. الجفاف الروحي بين الأسباب والمعالجات - الجزء السادس
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
ومن الوسائل العلاجية الأخرى للجفاف الروحي للذي يشهده عصر العولمة اليوم:
ـ الرابع: محاسبة النفس. حيث أن النفس البشرية بما أنها تشتمل على الجوانب المادية والروحية قال تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها) وهي تفعل الخير وتفعل الشر أيضا، فلديها الإستعداد لتلك الإثنينية معاً، فإذا أهملها الإنسان فإنها تميل الى الشر أكثر فأكثر ومع الإهمال تزداد كفة السيئات أفعالها تدريجياً حتى تستولي على آخر رصيد من أرصدة الخير فيها وبعدها لا تكون قادرة على محاربة الزيغ والإنحراف. فعن الإمام الباقر(ع): (ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنباً خرج من النكتة البيضاء نكتة سوداء، فإن تاب ذهب السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه الى الخير أبدا) وهو قول الله عزوجل: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) المطففين اية ١٤، وهذه الرواية تبين بأن النفس بحسب أصلها الأولي فيها النكتة البيضاء وأن الذنب هو المؤثر عليها فيحدث أثراً طارئاً وهو اسواد العمل وهو الرين العارض على نقاءها فأذا تراكم هذا الصدأ حجب النفس عن رؤية الخير والصلاح. فحينئذ تصبح ضرورة عقلية لرفع هذا الرين وعدم تراكمه، ولابد من محو هذه الصورة السوداء العارضة على نقاء النفس وإزالة هذا الأثر من خلال التوبة وعدم العودة الى الفعل السيء ومراقبة النفس ومحاسبتها دائما. من هنا يتبين سببية متابعة أعمالنا ومحاسبة أنفسنا ومراقبة أعمالنا وتصرفاتنا.
أن مبدأ المحاسبة هو أمر نراه في واقع الحياة العملي، حيث إننا نقوم به لحفظ واستقرار أوضاعنا المالية وكي نحصل على أرباح إنتاجية أكثر، بل نرى أن الناس يضعون الإجراءات القانونية المشددة فالتجار وأصحاب المهن والصناعات يقومون بتوظيف محاسب مالي للوقوف على واقع أعمالهم التجارية ومتابعة ماحققته مصانعهم من أرباح وماتكبدته من خسائر فإذا حصلت خسارة فأنه نراهم يبحثون عن سبب تراجع الإنتاج ! وما ذلك إلا لغرض المحافظة على الإنتاج وعلى زيادة رأس المال وتلافي النقص الحاصل عندهم.
فالمحاسبة ومتابعة والوقوف على أسباب خسارة وتراجع النفس ونكوصها ضرورة, لذا يرى العقلاء أن هذا المبدأ مبدأ مهم حيث أن النفس إذا اهُملت ولم تحاسب ويغيب مبدأ المحاسبة فأن الخسارة تكون أكبر اذا لم يبادر الخاسر الى جبران خسارته بالتوبة والعمل الصالح ! فكيف ننجوا بأنفسنا هذه ونخلصها من تلك الخسائر الفادحة، هل نتركها وبالتالي تكون النتائج وخيمة!.
أمير المؤمنين (ع) يعلمنا كيف نحاسب أنفسنا فيقول (ع) أن الإنسان لابد أن يحاسب نفسه بهذه الطريقة بقوله (ع): (إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفسي إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبدا !والله يسألك عنه: بما أفنيته؟ فما الذي عملت فيه؟ أذكرت الله أم حمدته؟ أقضيت حوائج مؤمن فيه؟ أنفست عنه كربة؟ أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظته بعد الموت في مخلفيه؟ أكففت عن غيبة أخ مؤمن؟ أعنت مسلماً؟ ما الذي صنعت فيه؟.
فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله وكبره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله وعزم على ترك معاودته)، إذن: فمحاسبة النفس تكون بمؤاخذتهاعما صدر منها والنظر في أعمالها السيئة والآثام ، وما صدر من أعمال الخير والطاعات، فأن رجحت كفة الحسنات عليه أن يشكر الله وإن رجحت كفة السيئات عليه أن يتوب، وإن يؤنب نفسه ويؤدبها على طاعة الله تعالى، ففي كل يوم علينا أن نواجه أعمالنا التي عملناها خلال هذا اليوم، فناتي أولاً الى الفرائض الإلهية فنحاسب أنفسنا هل أدينا تلك الفرائض بشكلها الصحيح! هل أدينا الصلوات في أوقاتها! هل أدينا الحقوق الشرعية! هل اجتنبنا الكلام المحرم! هل اجتنبنا النظرة المحرمة! هل امتنعنا عن مشاهدة الأفلام المحرمة! هل اجتنبنا اخذ الرشوة عند العمل في الدائرة! وكيف تعاملنا مع الآخرين(مع الزوجة، مع الزوج، مع الأبناء، مع الولدين، مع الأقربين، مع الأصدقاء، مع زملاء العمل..) فان كانت هنالك أخطاء، فعلينا إلزام أنفسنا بالإعتذار وتغيير سلوكنا مع الآخر، فإن كانت نتيجة المحاسبة إيجابية من حيث أداء الفرائض الإلهية واجتناب الأفعال المحرمة، علاقاتي مع الاخرين (الوالدين، الأولاد، الزوج، الزوجة، الاصدقاء٠٠٠) جيدة أيضا، فهنا أشكر الله تعالى على ذلك، أما إذا كانت النتيجة سلبية فلابد من إلزام نفسي بالإعتذار وتغيير السلوك ، فقد ورد عن الامام الكاظم(ع) أنه قال: (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد منه، وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه).
ـ الخامس: من المعالجات التي تهدف لإحداث توازن بين الجانب الروحي و المادي عند الإنسان هو إتيان الأعمال الصالحة والمداومة عليها. ومصطلح (العمل الصالح) ورد في القرآن الكريم بصيغة الألف واللام والتي تفيد العموم والشمول، بمعنى أنه لايختص بعمل معين بل يشمل كل الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان، والعمل الصالح هو العمل الذي يكون صالحاً بنفسه ومرضياً عند الله عزوجل، ومن الملاحظ بوضوح أن الآيات والروايات الشريفة قد قرنت العمل الصالح بالإيمان وأنه لا ينفك عنه، بمعنى أنه لا إيمان بلا عمل صالح، ولا عمل صالح بلا ايمان: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). وقوله تعالى: (مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا) وقوله تعالى: (انَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). وما ورد في الروايات الشريفة أيضا، فعن النبي (ص واله): (الإيمان والعمل أخوان شريكان في قرن، لا يقبل الله أحدهما إلا بصاحبه). فالعلاقة بين الإيمان والعمل الصالح علاقة طردية مترابطة فكلما زادت الأعمال الصالحة عند الإنسان كلما زاد إيمانه ورجح الجانب الروحي، وهذا معناه أن الإيمان متقوم بالأعمال الصالحة، لذا فإن قيمة العمل هو ما كان منبعثاً عن دين وإيمان، وأن هذه الأعمال هي التي تمنح الإنسان قوة الإيمان بل أنها ترفع اعتقاده الصحيح و تقومه من الإنحراف لأنه متحد معه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ), وأن العمل الصالح يجذر الجانب الروحي في نفس الإنسان وينميه، وكلما زادت أعمال الإنسان الصالحة كلما زاد إيمانه وتدينه، وبالعكس الأعمال السيئة فإنها تحط إيمان الإنسان وتضعفه بل تمهد الأرضية للكفر: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، والعمل الصالح من خصائصه أنه يتبع الإنسان بعد موته: (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ)، وعن النبي(ص واله ): (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع إثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله) وعن الإمام الصادق (ع): (دعا الله الناس في الدنيا بآبائهم ليتعارفوا، وفي الآخرة بأعمالهم ليجازوا).
فعلينا أن نحرص على استثمار فرصة العمر باتيان الأعمال الصالحة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وعن النبي(ص واله) أنه قال: (يا أبا ذر، إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن يزرع خيرا يوشك أن يحصد رغبة، ومن يزرع شرا يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع ما زرع).
ـ السادس: إفراغ النفس من الرذائل وهو ما يسميه علماء الأخلاق (بالتخلية), والتي تعني تطهير النفس وباطن الإنسان وإخلاؤها من رذائل الأخلاق كالغيبة والعجب والحسد والتكبر والنميمة وحب الدنيا والبغي.. وغيرها. وأن إخلاء النفس من هذه الرذائل اذا لم يتحقق، فإن الفائدة من إتيان الطاعات والعبادات وأعمال البر والخير تكون ضئيلة وذلك لأن النفس مع هذه وجود هذه الرذائل غير مستعدة لاستقبال الفيوضات الإلهية، فتخلية النفس من الرذائل يعني إفراغها منها، وحينها تكون النفوس نقية وصافية وتكون قابلة لانعكاس الفيوضات فيها كما يقول علماء الأخلاق, ولو استعرضنا بعض آيات القرآن الكريم لرأينا مراحل التطهير التي يمر بها الإنسان، كقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا). فالصدقة الواجبة هي أحد العبادات والطاعات لها وظيفتان:
ـ الأولى: هو التطهير من حب الدنيا والتعلق بها والبخل والشح، وهذه هي مرحلة التخلية.
ـ الثانية: تزكية النفوس وتحليتها بالفضائل والتضحية والإيثار وبذل المال والتعاون والإحسان.
والملاحظ هنا أن إخلاء النفس من الرذائل مقدم على تحلية النفس بالفضائل, النفس مثل الوعاء الذي نريد أن نشرب به الماء النقي، اذ لابد من إفراغه من الأشياء التي تكون فيه وتنظيفه من الكدورات والقاذورات وتنقيته ثم سكب الماء فيه ليكون مهيأ لتناول الماء منه, كذلك النفس البشرية لابد من إزالة كدورات المعاصي وقذارات الآثام والهفوات والرذائل ثم تأتي مرحلة وضع الفضائل فيها.
إذن نحن أمام معادلات صعبة في حركة الإنسان في هذا الوجود تقوم هذه المعادلة بتصحيح مسار الإنسان ووضعه على طريق الفضيلة والخير والإستقامة على جادة الشريعة وتعاليمها المقدسة والإرتباط بالله تعالى، وعند تحقق هذه المعادلات في حياة الأنسان سيتحقق التوازن الروحي في حياتنا جميعا, و هذه المعادلات لها طرفان:
ـ الطرف الأول: وهو وجود الرذيلة والفساد.
ـ الطرف الثاني: تحقق إيجاد الفضيلة والإستقامة في نفسه، فمن كانت حياته مملوءة بالأخلاق الفاسدة عليه أن يستبدلها بمكارم الأخلاق المحمودة, ومن كان فضاً غليظاً عليه استبدالها بالخلق الحسن واللين والمسامحة, ومن كان يخوض في أعراض الناس عليه استبدالها بالذب عنهم وذكر محاسنهم, ومن كان يخوض في مجالس اللهو والحرام عليه أن ينقل نفسه الى مجالس الصلاح والخير, ومن كان يحضر مجالس الغيبة والنميمة والبهتان، عليه أن يستبدلها الذكر الحسن وحفظ حقوق الناس وعدم التعدي عليهم٠ ومن كان يلهث وراء الكسب الحرام عليه أن يستبدله بالسعي للكسب الحلال, ومن كان يعطي أوقاته للتجول في مواقع التواصل الإجتماعي الإباحية منها وغير المشروعة (الصور المحرمة، المراسلات المحرمة، المفاكهات والعلاقات غير المشروعة..). عليه الآن أن يستبدلها بما هو نافع ومحلل شرعا, ومن كان بعيدا عن أعتاب المساجد عليه أن يدخلها ولو مرة واحدة في الأسبوع, ومن كان عاقاً لوالديه عليه من الآن أن يكون بارا بهم, ومن كان قاطعا لرحمه عليه من أن يكون واصلاً لرحمه.
هذه هي التخلية والتحلية ماهي إلا درجة من درجات التوبة والإستغفار، لمن كان يعيش حالة الفراغ الروحي وإنعاشها روحيا بالتوجه وتربية نفسه وتزكيتها بالفضائل ومكارم الأخلاق التي أكد عليها الإسلام.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول