شهدت العاصمة بغداد في تسعينيات القرن الماضي، ظاهرة فرض "الأتاوات" على أصحاب المحال التجارية والمطاعم ومهن اخرى بسبب تدهور الوضع الاقتصادي في ذلك الحين، وكان "أبطال" تلك الظاهرة ضباط ومنتسبون أمنيون وخارجون عن القانون، بما يعرفون محليا بـ"الشقاوات".
وبعد زوال النظام السابق، استبشر ضحايا "الأتاوات" بزوال الظاهرة التي اختفت فعلا لعدة سنوات، إلا أنها عادت مجددا لتتصدر المشهد هذه المرة جماعات وأجنحة مسلحة تدعي انتماءها لكيانات سياسية معروفة، إلى جانب منتسيبن أمنيين وعسكريين، وطالت حتى الشركات المنفذة للمشاريع الاستثمارية العراقية منها وغير العراقية.
ويقول علي كاظم (28 عاما)، وهو اسم مستعار، لصاحب أحد مراكز الحلاقة الرجالية في العاصمة بغداد، "عند افتتاحي مركز الحلاقة، أكملت جميع الأوراق القانونية من شهادة نقابة الحلاقيين لممارسة المهنة، بالإضافة إلى هوية الحلاقيين، وتم كل شيء بصورة سليمة، إلى أن فاجأني بعد فترة أشخاص قدموا إلى المركز، وطالبوني بمبلغ ثلاثة ملايين دينار، وإلا فإنه سيتم غلق المركز، وبعد تدخل الكثير من الوساطات تم تخفيض المبلغ إلى النصف".
ويضيف كاظم، أن "هؤلاء يأتون على شكل عصابات مسلحة، وفي أغلب الحالات ينتهي الأمر بشجار كبير وإجبار صاحب المحل على دفع المبلغ المطلوب للحفاظ على حياته ومصدر رزقة".
ويشير إلى أن "فرض تلك الأموال من قبل جهات غير معروفة يطال كل من لا يملك واسطة أو معارف مؤثرين على تلك الجماعات"، لافتا إلى أن "ذلك يأتي إلى جانب ما تفرضه النقابات كل سنة من مبلغ معين، نقوم بتسديده بشكل أصولي".
يشار إلى أن العديد من أصحاب المهن والمحال التجارية في بغداد، يشكون بين وقت وآخر من تعرضهم لعمليات ابتزاز وسطو مسلح من قبل جهات مسلحة، تجبرهم على دفع مبالغ مالية شهريا، مشيرين إلى أنه في حال عدم الدفع فمصيرهم هو سرقة محالهم التجارية أو حتى القتل.
بدوره يؤكد صفاء عباس (44 عاما)، صاحب محل لتصليح السيارات في إحدى ضواحي العاصمة بغداد، بأنه قانع بالبقاء في هذا المحل الصغير، على الرغم من طموحه بافتتاح محل أكبر وشامل لكل أنواع التصليح، وليس مقتصرا على الكهربائيات.
ويوضح عباس، بأن "لدي القدرة المالية لتحقيق طموحي، لكني متخوف جدا من اتخاذ هذه الخطوة، بسبب احتمال فرض الأتاوات من قبل عناصر مجهولة، تدعي انتماءها لجماعات مسلحة وجهات سياسية نافذة".
ويردف أن "الأمر يحصل كثيرا مع بعض الأصدقاء والمعارف، ممن لا يجرؤون على ردع المداهمين المجهولين".
من جهته، يشير عباس جبار (41 عاما)، صاحب قاعة أعراس، إلى "أتاوات" من نوع آخر، تأخذ شكل الفساد الإداري عن طريق الابتزاز، أبطالها عناصر من الأمن السياحي المرتبط بوزارة الداخلية.
وعن ذلك، يقول جبار "داهموا القاعة بسبب عدم امتلاكي إجازة رسمية لممارسة المهنة، وبعد الكلام معهم تم التوصل إلى إعطائهم مبلغا بسيطا كل شهر، للتغاضي عن موضوع الإجازة".
ويوضح أن "الموضوع يحدث غالبا في المناطق الراقية بالعاصمة بغداد، بسبب امتلاك الكثير من رجال الأعمال والسياسيين محال تجارية ومراكز دون أن يعرف أحد عائديتها، كونها لا تسجل بأسماء أصحابها الحقيقيين، وهؤلاء يمنحون الأموال دون مناقشة، خشية الكشف عن أسمائهم".
وكان مدير إعلام شرطة بغداد المقدم عزيز ناصر، قد أكد في كانون الثاني 2022، أن، هناك بعض الأشخاص يقومون بفرض أتاوات وإيجارات على العجلات المتوقفة على جانب الطريق في مناطق من بغداد وخاصة في مناطق الكرادة والمنصور، وتم اعتقال عدد غير قليل من هؤلاء بأمر قضائي واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، مشيرا إلى أن هذه الحالة تتطلب تضافر الجهود الأمنية كافة.
وبهذا الصدد، يبين المحامي أحمد الباوي، أن "الكثير من تجار بغداد وميسوري الحال يدفعون الأتاوة خوفا على حياتهم وعوائلهم وأرزاقهم، والكثير أو أغلب العصابات التي تقوم بذلك هي جماعات مسلحة لديها قوة السلاح والسلطة، لهذا يجبر المواطن على الدفع".
ويشدد على أن "دفع الأتاوة يعتبر من الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات العراقي، ومعالجة هذه الظاهرة منوط بالأجهزة الأمنية، حيث يجب على الدولة فرض قوة القانون خاصة في المناطق الفقيرة، حيث تنشط هذه الجماعات، فكلما ضعفت الأجهزة الأمنية زادت هذه العصابات المنظمة من سطوتها ونفوذها".
ويلفت إلى أن "لجوء المواطن إلى القضاء في ظل سيطرة هذه الجماعات يعرض حياته ورزقه لخطر القتل أو الخطف خاصة وأن هذه الجماعات ليس لديها رادع عن القتل".
ويشهد البلد انتشارا كبيرا للسلاح المنفلت، سواء على مستوى الأفراد أو الاحزاب أو العشائر، ودائما ما يستخدم بالنزاعات الشخصية أو السياسية أو العشائرية.
من جانبه، يفند المتحدث باسم وزارة الداخلية العميد مقداد ميري، أن "تكون هناك جهات مجهولة تفرض أتاوات على المحال التجارية والشركات والمواطنين في مناطق العاصمة بغداد".
ويوضح ميري، أن "الوزارة تعمل على قدم وساق للحفاظ على استقرار الوضع الأمني في مناطق العاصمة، وفي حال وجود هكذا حالات فردية فعلى المواطن أن يلجأ إلى القوات الأمنية ليتم اتخاذ أقصى الإجراءات القانونية بحق مرتكبيها".
وسبق لرئيس الحكومة محمد شياع السوداني، أن أورد في منهاجه الوزاري، فقرة تخص السيطرة على السلاح المنفلت وحصره بيد الدولة، وهي نفس الفقرة التي وردت في البرامج الحكومية كافة لرؤساء الحكومات السابقة، لكنها لم تنفذ سابقا أو حاليا.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- "ترتيبات" مع الناتو.. هل وجدت بغداد بديلا للتحالف الدولي؟
- لـ"تطوير المهارات".. إيفاد أعضاء مجلس بغداد إلى وجهات سياحية عالمية
- بغداد تتهم وأربيل ترد.. هل تعود أزمة الرواتب بإقليم كردستان للواجهة؟