ليس عيبا او منقصة في الانسان عندما لا يعرف ويقول انه لا يعرف لكن كل العيب والنقص في الانسان الذي لا يعرف ويقول انه يعرف بل ويتباهى بذلك من دون أي وجه حق ما يحوله الى مايشبه (الوباء المعدي) الذي يهدد الابداع
في الصميم ويطارد الكفاءة اينما وجدت ويزاحمها بالمناكب كي يزيحها عن مكانها الحقيقي المناسب ليحل مكانها ويتحكم بها كيفما يشاء ودونما اية شفقة او رحمة لانه وهو الجاهل لو كان يعرف ما قيمتها لما فعل كل ما فعل.
الشريعة الاسلامية السمحاء عالجت هذا الموضوع الحيوي الحساس على اروع وافضل ما يكون العلاج (فمن قال لا اعرف فقد افتى)و( من افتى فاصاب فله اجران ومن افتى فاخطأ فله اجر واحد) مع ملاحظة ان من افتى بالخطأ لم ينطلق من فراغ او انه انسان جاهل يستسهل اصدار الفتاوى ويوزعها ذات اليمين وذات الشمال من دون معرفة او دراية بل هو انسان عالم يمتلك كل مقومات الافتاء جاهداً كي يصل الى نتيجة من وراء علمه ولكن غاية ما في الامر انه لم يوفق في ادراك هذه النتيجة.
ما احببت ان اوصله من رسالة تكمن في ثنايا هذا الموضوع اننا قد عشنا فيما مضى في سجن كبير جدا كان يطلق عليه مجازا لفظة (وطن) حرمنا فيه من ابسط حقوقنا وتمت على ارضه مصادرة حرياتنا وتعرضنا في كل مرافق حياته الى افة الاقصاء والتهميش راقبت فيها خطواتنا وعدت علينا انفاسنا حتى اضمحلت فيها عقولنا وتلاشت فاصبحت هي والعدم سواء بسواء.
بعد سقوط الصنم انفتحت لنا ابواب كنا قد حرمنا من الدخول اليها رغم تخطينا العقد الرابع او الخامس من اعمارنا فاندفعنا نجرب وليس في جعبتنا من زاد الا الامل والاخلاص واخيرا وليس اخراً شرف المحاولة لتكون لنا السلوى اذا تعرضنا الى الفشل والاخفاق.
ان أي منصب من الممكن ان تصله وسواء اكان وزيرا ام برلمانيا ام سفيرا او أي منصب اخر وتجد نفسك فيه وتريد ان تنجح من خلاله فما عليك الا ان تعشقه اولا ولا اقول تحبه فالحب في بعض الاحيان قد لا يجدي عندما تكون الصعاب والمخاطر جمة فالقضية اولا واخيرا قضية( ليس المهم ان تفعل ما تحب ولكن المهم ان تحب ما تفعل). في البدء كانت فكرة هذا الموضوع كتابة مقال يشيد بجهود وانجازات احد الاخوة الاعزاء من المبدعين الرائعين الذي استطاع وهو البعيد عن اختصاص الاعلام ان يحقق نتائج مذهلة كانت محط اعجاب وتقدير للكثيرين لكن الموضوع وجدته ياخذ ابعاداً اخرى تتمثل بمعالجته للداء المرضي الخطير جدا الذي اصاب كل مفاصل الحياة في العراق بعد سقوط الصنم ونعني به ( المحاصصة الطائفية ) اذ جاءت الاحزاب السياسية المشاركة في تركيبة الحكم بعناصرها الحزبية او بالاشخاص الذين يدينون بولاءاتهم لسياساتها حتى وان كانوا غير منتمين اليها.
وحتى شاعت الفوضى والارباك في كل مفاصل واجهزة الدولة اذ تجسدت على ارض الواقع وفي ابشع صورها مقولة (الشخص غير المناسب في المكان المناسب) ولا نعرف لماذا وقعت هذه الاحزاب في هذا المازق الخطير وهي التي عاشت اغلب قياداتها في دول متقدمة وبكل تاكيد انها رأت بام عينها كيف ابدعت هذه الدول في رفد كل مفاصل الحياة بالناس الاكفاء من اصحاب الاختصاص والخبرة او من يعرفون بـ(التكنوقراط).
فهل لا توجد في الاحزاب السياسية العراقية اليوم مثل هذه الكفاءات التكنوقراطية؟ ام ان هذه الاحزاب وجدت نفسها امام مشهد سياسي عراقي فوضوي اكبر منها في كل شيء بابعاده وقوانينه وشروطه فاندفعت في اثره مسلوبة العزم والارادة تنصاع له اكثر ما ينصاع هو اليها فاذا ما قدمت هي افضل ما لديها من كفاءات خافت ان يرفضها الواقع فراحت تعتني بتقديم الحزبي من تعتقد انه مضمون الولاء لتوجهاتها وبرامجها - ان كانت اصلا لها برامج- وتاخذ عليه كل الضمانات اللازمة خوفا من ان ينقلب عليها بعدما يمارس مهام عمله في المنصب الذي رشحه له الحزب اكثر مما اعتنت به من تقديم اصحاب الكفاءة والاختصاص وخوفا ايضا من ان لا يضمن هذا النوع من الناس اذا ما تسلم المنصب ونفذ سياسات لا تتفق مع رؤى واهداف الحزب الذي رشحه.
وما زاد الطين بلة في المشهد السياسي العراقي ان السادة المسؤولين ممن تقلدوا مناصب مختلفة في كل مفاصل واجهزة الدولة فكروا بامتيازات ومزايا مناصبهم اكثر من تفكيرهم بالواجب الذي من المفترض ان يؤدوه على الوجه الصحيح ومما يؤسف ويرثى له ان الفوضى والارباك اللذين اصبحا سمة لكل شيء هذه الايام جعلا الوهن والضعف يدبان في كل زاوية من مفاصل الدولة ويقلبان الامور فيها راسا على عقب فالمسؤول اصبح اليوم وفي معظم الاحيان لا يحاسب مهما فعل ومهما كانت الاخطاء في المنصب الذي يعمل به لانه يتمتع بحصانة من الجهة السياسية التي جاءت به ضمن صفقة كبيرة توزعت فيها الحصص فكل عرف ما هي حصته من البداية فاذا ما تعرض هذا المسؤول الى أية مسالة قانونية - وهو نادرا ما يتعرض- تعرضت مجمل الصفقة التي جاءت به الى الفشل الذي معناه في مثل هذه الحالة عدم دعم الوزير الاخر من الجهة السياسية الاخرى كذلك فان من اسباب فشل هذا النوع من السياسات الحكومية المبنية ومن الاساس على اسس وضوابط خاطئة وغير سليمة بالمرة على تحالفات حزبية كان جل اهتمامها منصباً من البداية على ضمان مصالحها وامتيازاتها اكثر مما كانت تعتني بمصالح وامتيازات الوطن والمواطن لذلك وجدنا كيف راحت تؤمن من وضعها في هذا المشهد عبر سن الكثير من القوانين التي تحفظ لها مصالحها وامتيازاتها منها عدم مساءلة (هيئة النزاهة) اي مسؤول دون اذن من وزيره وشمول الكثير من المتورطين بجرائم الفساد الاداري والمالي بقانون العفو العام.
ولان الحكمة تقول (لايصح في الاخير الا الصحيح) فلابد ان ياتي الوقت وهو ليس ببعيد وينصف اصحاب الكفاءة والنزاهة ولكن غاية ما في الامر ان لانكتفي بالنظر دائما ونستغرق في سوداوية المشهد في ان نظل نركز بالنظر الى النصف الفارغ للكاس وهي العادة الملازمة لكل المتشائمين والمترددين من دون النظر للنصف الممتلئ وهي عادة وصفة من لايقبل ان يحيا الا بالتفاؤل والامل ومن هنا فما على كل من تعرض الى (الاقصاء والتهميش) الا التحلي بالمزيد من الهمة والامل الوطني من اجل ان ياخذ استحقاقه كما يجب ان يكون في بناء وطنه من جديد من دون منة او صدقة من الاخرين.