- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
المشاريع الاستثمارية الحكومية في العراق: بين الطموح والتعثر
بقلم: مظهر محمد صالح
بات من الجلي ان الموازنة الاستثمارية السنوية هي حالة لاتعدو عن رصد لمبالغ تخمينية تعتمد وتُطلق مع تشريع الموازنة العامة التي تأتي خالية من اي مشروع بأستثناء القروض التنموية الخارجية الممولة لمشاريع مُعرفة وتتولاها جهات دولية باتفاقات تعاون فني واقتصادي مسبقة مع العراق، اذ قُدرت تخصيصاتها بحوالي ٢٨٪ من اجمالي تخصيصات مشروع الموازنه الاستثمارية للعام ٢٠٢٠ والبالغة قرابة ٣٦ تريليون دينار عراقي والتي امست جزء لايتجزء من اجماليات عجز تلك الموازنة المقترحه ولم تُقر حتى الوقت الحاضر.
اما اختيار المشاريع او خطة المشاريع فهو امر منفصل عن الموازنة العامة تمامًا ولم تُقدم معها وانما تُقر لاحقا وخضع لقدر عال من الضغوطات المحاصصاتية والمناطقية ومختلف العوامل المضادة للتخطيط التي اعتادت البلاد عليها، وعادة ما تطلق تلك المشاريع في الربع الاخير من السنة المالية، اذ ياتي اطلاقها بعدد هائل من الالتزامات طالما استمرت سياسة دفع السلف المقدمة واحدة من الظواهر المشجعة لقطاع المقاولات على ولوج اي مشروع يساعد حينها على تحصيل سلف downpayemts بمقدار ١٠٪ من قيمة مقاولة المشروع الواحد.
وهنا تنفذ الموازنة الاستثمارية من الناحية المالية خلال عام الموازنة فحسب لقاء خطاب ضمان يصدر عن مصرف محلي. اذ غالبا ما تثار مشكلات قانونية سهلة التعاطي تقمع دوائر الدولة من تحصيل قيمة خطاب الضمان عند النكول لكون المشروع سيتعثر في السنة المالية اللاحقة بسبب اهمال اوتعليق المشروع او تبدل الأولويات في المشاريع الاستثمارية من قبل الجانب الحكومي نفسه، انها (لعبة ريعية تشكل امتصاص لريوع النفط المخصصة لتنفيذ المشاريع دون مقابل استثماري).
وهكذا نجد ذلك الكم الهائل من المشاريع التي زادت على ٦٠٠٠ الاف مشروع وبقرابة ١٩ الف عقد مقاولة جلها مع القطاع الاهلي وبقيمة قاربت ١٠٠ مليار دولار، ليشكل تراكمها كمشروعات ملتزم بها وغير منفذة محض فوضى في مشاريع الدولة الاستثمارية او بالاحرى هي بدايات مشاريع تقر سنويا وتهمل لاحقا ليتحقق تراكم راسمالي (سالب) بدلا من طاقات انتاجية تمثل التراكم الراسمالي الحقيقي او الموجب، وما على الدولة الا القيام بدفع علاوة مخاطر risk premium قدرها ١٠٪ تدفع لقاء التاخر في اعتماد المشاريع الاستثمارية السنوية واخد شكل سلف مقدمة للمقاولين down payments والتي ظلت تدفع للمتعاقدين حتى آمد قريب لاظهار الجدية في التنفيذ المالي للمشروع الاستثماري بغض النظر عن الجدية في التنفيذ المادي.
ويقال ان الانجاز السنوي المادي للمشاريع الحكومية يتراوح بين ٨٪_٢٨٪ في افضل الاحوال. منوهين ان (لعبة الغيار او فوات المنفعة) لزيادة كلفة المشروع المتعثر (بالحق او الباطل) عند اعادة العمل به بعد سنوات ، هي واحدة من (كلفة العراق) التي سننوه عنها لاحقا.
ويجري تكرير ذلك سنوياً لمجموعات اخرى جديدة من المشاريع وتعطيل سابقاتها و بشكل متوالية متزايدة، اذ يتم اهمال المشاريع السابقة المنفذة غير المكتملة بقرارات ارتجالية وضغوط محاصصاتية بائسة، او بقرار حكومي مركزي كما حصل في القرار ٣٤٠ لعام ٢٠١٥ بسبب الازمة الامنية والمالية في قرار ايقاف المشاريع غير المكتملة والدفع بالاجل والتي كلفت البلاد دفع سندات او الالتزام بدفعها بقرابة ٥ تريليونات دينار عن كلفة مشاريع حكومية شبه منجزة او غير منجزة. مع ملاحظة ان غالبية المشاريع الاستثمارية تاتي خالية من دراسات الجدوى او انعدام تام لدراسات الجدوى الاقتصادية والفنية والاكتفاء كبديل لذلك بتقرير فني شديد التبسيط.
وهكذا عُد العراق من الدول التي تتمتع بخزين مهول من المعدات المستوردة والمودعة مخزنيا لمصلحة المشاريع الحكومية غير المكتملة او المتوقفة، ما يستدعي قيام ديوان الرقابة المالية الاتحادي بجرد قيمة تلك المعدات التي استوردت على حساب مشاريع والتي مازالت معطلة الاستعمال والمتراكمة منذ سنوات من دون الانتفاع.
في ضوء ما تقدم، فثمة مسألتين مهمتين لابد من ان نشير اليهما في هذا العرض، الاولى: لم تبقِ الموازنة التشغيلية شيء للاستثمار للاسف بسبب الانفلات المالي الذي شهدته البلاد على مدار العقد ونيف الماضي والى يومنا هذا اذ استحوذت الموازنة التشغيلية على ايرادات النفط كلها والايرادات غير النفطية وتشكل محور مهم في الاقتراض لتمويل عجز الموازنة التشغيلية نفسها. لذا لم يبق امام البلاد الا الاستفادة من اتفاقيات تمويل المشاريع الاستثمارية سواء مع بلدان الاتحاد الاوروبي او اليابان او البنك الدولي وغيرهما بما في ذلك العقد الصيني (النفط مقابل الاعمار) اذا يأتي الاتفاق الاخير كمحاولة توفير اجباري باتجاه اعادة هندسة الموارد النفطية صوب الاستثمار في البنية التحتية المتهالكة بدلًا من ابواب التبذير والصرف الاستهلاكي الحكومي الذي امسى يسير صوب اللامعقول. فالنظرية الاقتصادية تقول ان ١٪ نمو في البنية التحتية يؤدي الى ١،٥٪ نمو في النشاطات الانتاجية المباشرة كالمصانع وغيرها وهذا ما تفعله الهند ومجموعة العشرين وغيرها من البلدان.
والثانية: هي الفكرة التي قام عليها العقد الصيني من ان دخول الشركات الصينية للعمل بالعراق من خلال التعامل المباشر دون وساطات ومفاسد (اي جهة حكومة مع حكومة gov to gov) سيلغي هامش مخاطر وهدر كبير في تنفيذ المقاولات الاجنبية داخل العراق و يطلق عليه حالياً بكلفة العراق Iraqi cost والذي يشكل ٤٠٪ اضافات على المقاولات ان وجدت داخل البلاد (ضمن الظواهر الشائعة القامعة للاستثمار والاعمار ككلفة الامن والفساد وفوات المنفعة جراء التأخير في آليات التنفيذ) فضلاً عن اهمية دخول البلاد بعصر الاستخدامات الحديثة لتكنلوجيا التشييد والبناء واصول وقواعد التنفيذ في ادارة المشاريع وتشغيل الاف العاطلين والتصدي لتراكم البطالة ومشكلاتها التي تزيد على ٢٠٪ بين القوى العاملة الشابة.
ختاماً، وللاسف يمكنني القول ان العراق قد ظل تحت (الاغطية الخفية) للفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة كدولة تعد من وجهة الاخرين مازلت تشكل خطر على السلم العالمي ولو بشكل خجول ومبطن .. وهو بحاجة مستمرة الى حصارات غير مرئية ولكن بأطر دبلوماسية مهذبة والا لماذا اصدرت لجنة قرار مجلس الامن ١٥١٨ لسنة٢٠٠٣ برفع الحجز قبل ايام عن ١٦٩ منشاة ومشروع حكومي تعرضوا للحظر الدولي بموجب احكام الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة من دون معرفة الاسباب الموضوعية التي اتخذتها لجنة القرار ١٥٢٨ !
اذ تمت الاشارة الى رفع الحظر بشكل خجول دون ان يعرف المواطن ماهو مغزى ذلك الحظر على مؤسسات حكومية لا يتعدى قسم منها مركز تدريب مهني ؟ ..!!!
لذا اجد في الاتفاقات المبرمة لتمويل المشاريع الانمائية من جانب البلدان والمنظمات الدولية بما في ذلك الاتفاق العراقي / الصيني هو الحد الادنى للنهوض بمشاريع التنمية في التمويل والتنفيذ الى حين القيام بالاصلاح المالي والاقتصادي بشكل جذري والتصدي لهدر عوائد موارد النفط التي تعد موردا راسماليا مُوجه اساسا للاستثمار المفضي الى تنويع الاقتصاد الوطني واعادة بناء التراكم الراسمالي وتعظيم النمو الاقتصادي من خلال الاستثمارات الملازمة لسياسات التنمية الوطنية المخططة سلفا . وان التغير المطلوب في تمويل وتنفيذ الاستثمارات بقدر عال من الاولوية والانضباط، سيظل البديل عن الذهاب الى حالة التوسع والافراط في النزعة الاستهلاكية التشغيلية في موازنات البلاد. اذ يستحوذ الانفاق الحكومي السنوي على حوالي ٤٥٪ من الانفاق الكلي ويشكل العراق بهذا الشأن رابع اكبر بلد في العالم من حيث دور الحكومة في النشاط الاقتصادي الكلي. وهي بدايات التفكير الجاد لكسر المعادلة الخفية الاستهلاكية السالبة في مستقبل التنمية في العراق.
أقرأ ايضاً
- البحث العلمي لمكافحة التصحّر في العراق: ضرورة ملحة لمواجهة التحديات البيئية
- حجب التلغرام في العراق: حماية للأمن القومي أم حماية للسلطة فقط؟
- النظام السياسي في العراق: اين الخلل؟