- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
التعويض عن التوقيف.. خطوة نحو تطور التشريع الإجرائي
بقلم: القاضي وائل ثابت الطائي
إن بعض الإجراءات في الدعوى الجزائية التي تباشرها السلطة القضائية أثناء التحقيق في الجريمة، قد يُلحق ضرر مادياً ومعنوياً بالمتهم، وفي مقدمة هذه الإجراءات التوقيف، فعندما يصدر قرار بتوقيف المتهم بسبب الاتهام الموجه إليه من إنه قد ارتكب جريمة يتم احتجازه في مركز التوقيف لمدة من الزمن، في حالات كثيرة، قد تمتد هذه المدة فتستغرق أشهرا أو سنة أو أكثر وبعدها يصدر من قاضي التحقيق أو من قاضي محكمة الموضوع، عند إحالة الدعوى إليه، قرار بالإفراج عنه، فهل يمكن للمتهم المطالبة بالتعويض عن المدة التي قضاها بالتوقيف بعيداً عن أهله وعمله لما سببته من أضرار مادية ومعنوية؟
هذا الموضوع على قدر كبير من الأهمية لارتباطه بمسؤولية الدولة عما قامت به السلطة القضائية وما نتج عنها من خطأ عند تطبيق القانون، وعدم اتخاذها العناية اللازمة والدقة في اتخاذ القرار على ضوء معطيات وظروف التحقيق، وهذه المسؤولية نجدها أيضاً في مرحلة المحاكمة عندما يصدر قرار بالحكم بالإدانة وفرض العقوبة على المتهم وإيداعه السجن أو الحبس، ثم يظهر بعد ذلك دليل براءته وعدم علاقته بالجريمة التي حكم عنها بعد أن قضى بعض أو كل محكوميته بسبب الاتهام الخاطئ الذي وجه إليه، ونتيجةً لهذا الحكم قد أصابه ضرراً جسيماً.
هذا الموضوع سنتناوله من خلال الآتي:
أولاً- مسؤولية الدولة عن التعويض
إن المتهم الموقوف الذي أمضى مدة طويلة محجوزاً رهن التوقيف بسبب اتهامه بارتكاب جريمة، وقد بقى طوال هذه المدة فاقداً لحريته الشخصية لا يستطيع أ يمارس نشاطاته الاعتيادية بعيداً عن أسرته وبعيداً عن ممارسة عمله، بكل تأكيد يصيبه ضرراً أدبياً ومادياً عندما يتضح إن التوقيف الذي صدر بحقه لم يكن مبرراً وإن المحكمة قررت الإفراج عنه وتبرئته من التهمة المنسوبة إليه وإطلاق سراحه من التوقيف بعد أن أمضى تلك المدة دون وجه حق.
إن التعويض عن التوقيف غير المبرر يستند إلى مبدأ مسؤولية الدولة عن ممارسات السلطة القضائية والتي أدت إلى إلحاق الضرر بالمتهم الموقوف نتيجةً لقرار خاطئ صدر عنها ساهم في حجز شخص في مركز التوقيف وحرمانه من حريته ثم يتضح فيما بعد إنه بريء مما نُسب إليه.
وقد يقول قائل إن هذا التعويض لا مبرر له لأن الدولة، متمثلةً بالسلطة القضائية، إنما تمارس عملها بموجب القانون والقرارات الصادرة عنها تستند إلى النصوص التشريعية وهناك جوازاً قانونياً بكل قرار يصدر عنها، ولما كان الجواز الشرعي ينافي الضمان، وتطبيقاً لهذه القاعدة يصبح التعويض لا سند للمطالبة به، كما إن توقيف المتهم جاء متلائماً مع المصلحة العامة المقدمة على أي مصلحة خاصة لهذا الفرد أو ذلك، فالمصلحة العامة تقتضي الكشف عن مرتكبي الجرائم وإنزال العقاب بهم والمحافظة على الأمن والنظام وفي ذلك دفع لضرر كبير قد يواجهه المجتمع وهذا الضرر مقدم على الضرر الصغير الذي يصيب الأشخاص في حريتهم أو في مالهم عند توجيه الاتهام إليهم وتوقيفهم، فالمصلحة العامة هي المقدمة وهي تؤخذ بالاعتبار في مواجهة المصلحة الخاصة، ومن ذلك يتبين إن التوقيف يولد نزاع بين مصلحتين مصلحة المتهم الخاصة بأن يبقى متمتعاً بحريته ومصلحة المجتمع العامة بأن يُلقى القبض على المتهم إلى حين معرفة صلته بالجريمة المرتكبة.
إن كل التشريعات المنظمة للأحكام الجزائية الإجرائية قدمت المصلحة العامة واعتبرتها ذات الأولوية في جميع الأحكام ومع ذلك لم تغفل هذه التشريعات عن مصلحة المتهم بقدر ما يسمح به القانون، لذلك وضعت شروط للتوقيف وضمانات وضوابط لممارسة القاضي صلاحيته بإصدار مثل هذا الأمر، ولكن يبقى هاجس إلحاق الضرر ببعض الأشخاص المتهمين له مساحته في الدعوى الجزائية ولعل ذلك يرجع إلى كون إن الطابع الذي يتحلى به قرار التوقيف يوصف بأنه طابع تقديري يعتمد أساساً على تقدير القاضي في توافر المصلحة من توقيف المتهم في الدعوى الجزائية المعروضة أمامه.
ثانياً : التشريعات الآخذة بالتعويض
1- موقف التشريع الفرنسي
إن النظام القانوني في فرنسا كان هو السباق في إمكانية تعويض الأضرار الناتجة عن الأخطاء القضائية حيث إنه في سنة 1970 أصدر القانون رقم (643) من سنة 1970 الذي أعطى بموجبه الحق في التعويض لسبب توقيف المتهم غير المبرر، وقد ساير القضاء النهج التشريعي واقر في قضية شهيرة أطلق على تسميتها (قضية الدكتور جيري) مسؤولية الدولة عن الخطأ الذي ارتكب من قبل أحد العاملين في مرفق العدالة.
إن المشرع الفرنسي قد ذهب إلى إرساء مسؤولية الدولة فأضاف في عام 1972 من المادة (141/1) نصاً يقرر مسؤولية الدولة عن تعويض الضرر الناتج عن سوء سير مرفق العدالة، وفي غير الحالات التي ينظمها نصاً خاصاً، ومع هذه الخطوة التشريعية لوحظ زيادة في عدد الدعاوى التي تطالب الدولة بالتعويض عن الأخطاء التي ارتكبت من رجال العدالة وهذه الزيادة كانت انعكاساً متطوراً وزيادة لمفهوم حقوق الإنسان في هذا البلد والبلاد الأوربية على وجه العموم خصوصاً بعد إبرام الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، وقد رأى القضاء الفرنسي إن هذه المسؤولية تتسع لجميع الأعمال التي يباشرها القضاة سواء كان قضاة التحقيق أو قضاء المحاكم حتى لو نالت قوة الأمر المقضي، وكذلك الشأن بالنسبة لأعمال أقلام الكتاب وأنشطة رجال الضبط القضائي التي تمارس تحت إشراف القاضي أو النيابة العامة.
وخلاصة ما نريد بيانه إن مسؤولية الدولة عن أخطاء السلطة القضائية وعن مسؤوليتها عن التوقيف (الحبس الاحتياطي) غير المبرر وجد مكانه في التشريع الفرنسي في القانون الصادر في عام 1970 الذي اشترط وقوع ضرر غير عادي يتصف بالجسامة الخاصة وبعد ذلك واصل المشرع الفرنسي باتخاذ خطوات أوسع وجاء القانون رقم 516 في /15/يونيو/2000 والذي من خلاله وضع نظاماً متكاملاً لتعويض الضرر المادي والأدبي الذي يصيب الموقوف متى ما صدر بعد ذلك قراراً بإخلاء سبيله أو بالإفراج عنه.
2 - موقف التشريع المصري
تأريخياً إن المشرع المصري كان يعالج هذه المسألة معالجة بسيطة من خلال نص المادة (482) من قانون الإجراءات الجنائية المصري التي نصت :
(تبتدئ مدة العقوبة المقيدة للحرية من يوم القبض للمحكوم عليه بناء على الحكم الواجب التنفيذ، مع مراعاة إنقاصها بمقدار مدة الحبس الاحتياطي ومدة القبض)، وكذلك المادة (509) من قانون الإجراءات الجنائية المصري :
(إذا حبس الشخص احتياطياً، ولم يحكم عليه إلا بالغرامة وجب أن ينقص منها عند التنفيذ خمسة جنيهات عن كل يوم من أيام الحبس المذكورة)، وإذا كان قد حكم عليه بالحبس والغرامة معاص وكانت المدة التي قضاها في الحبس الاحتياطي تزيد على مدة الحبس المحكوم به، وجب أن ينقص من الغرامة المبلغ المذكور عن كل يوم من أيام الزيادة المذكورة.
وفي حينها لم يتطرق المشرع إلى تعويض المحبوس احتياطاً واقتصر على ما جاء بالحكم الذي تضمنته المادتين المشار إليهما أعلاه فعندما يلغى الحبس الاحتياطي بسبب الحكم ببراءة أو صدور أمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لم يقرر المشرع التعويض وبقى ساكتاً عن هذه الحالات إلى أن تدخل في القانون رقم 145 لسنة 2006 الذي ساير فيه المشرع المصري ما تم الأخذ به في فرنسا حيث قرر بموجبه مبدأ التعويض عن الحبس الاحتياطي، ويرى فقهاء القانون في مصر إن هذا التشريع الجديد يجد أساساً له في المادة 57 من دستور 1971 التي نصت : (بأن تكفل الدولة تعويضاً عادلاً لمن وقع اعتداء على حريته الشخصية).
لقد جاءت المادة (312) مكرر من قانون الإجراءات الجنائية المصري النافذ رقم 150 لسنة 1950 لتبين موقف المشرع فنصت بشطرها الأول على معالجة بسيطة لكل من صدر حكم ببراءته وسبق حبسه احتياطاً، حيث نصت : (تلتزم النيابة العامة بنشر كل حكم بات ببراءة من سبق حبسه احتياطاً، وكذلك كل أمر صادر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية قبله في جريدتين يوميتين واسعتي الانتشار على نفقة الحكومة، ويكون النشر في الحالتين بناءً على طلب النيابة العامة أو المتهم أو أحد ورثته وبموافقة النيابة العامة في حالة صدور أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى).
إن هذه الفقرة من نص المادة أعلاه مضمونها هو تعويض الضرر الأدبي عن طريق النشر والحقيقة لا يكفل التعويض المناسب عن الضرر، ولذلك أردف المشرع في الشطر الأخير من نص المادة 312 فنص (وتعمل الدولة على أن تكفل الحق في مبدأ التعويض المادي عن الحبس الاحتياطي في الحالتين المشار إليهما في الفقرة السابقة ووفقاً للقواعد والإجراءات التي يصدر بها قانون خاص).
ومن مضمون النص المشار إليه نلاحظ إن إقرار الحق في التعويض المادي عن الحبس الاحتياطي الخطأ يتطلب وجود قانون خاص بموجبه تحرك الدعوى عن مسؤولية الدولة عن الضرر الذي لحق بالمتهم والحقيقة إن المشرع المصري بعد ذلك إنكمش على نفسه وسكت عن إصدار القانون الخاص، لهذا يرى فقهاء القانون إنه أمام سكوت المشرع عن إصدار مثل هذا التشريع الخاص فإنه لا مفر من الرجوع إلى القواعد العامة حمايةً للحق الذي قرره القانون، فتقرير الحق في التعويض يعني حتماً ولزوماً الإقرار بمسؤولية الدولة عن الحبس الاحتياطي الخاطئ لأن كل حق يقابله واجب بحمايته.
والخلاصة : إن المشرع المصري جعل المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي يلحق بالمتهم من جراء قرار الحبس الاحتياطي الخاطئ موقوفاً على إصدار قانون خاص، والحقيقة التي نراها إن هذا يعتبر هروباً من تطبيق نص المادة 312 حيث إنه سكت عن إصدار القانون وفي نفس الوقت إنه لا حاجة إلى إصدار قانون خاص ما دام النص الإجرائي قد أعطى حق التعويض.
3- موقف التشريع العراقي
لقد تعامل المشرع العراقي مع إجراء توقيف المتهم معاملة يمكن وصفها بأنها قاصرة عن الإحاطة بكل المصالح المتعلقة بهذا الموضوع ذلك لأن توجهه توقف عند احتساب مدة التوقيف ضمن مدة العقوبة المقيدة للحرية المحكوم بها المتهم ولم يتعد هذا الحكم بأي حكم آخر من قبيل إعطاء الحق بالتعويض أو تشريع بدائل للتوقيف، وقد نصت المادة (90) من قانون العقوبات إلى ما أشرنا إليه وجاء فيها :
(تبدأ مدة العقوبة المقیدة للحرية من الیوم الذي أودع فیه المحكوم السجن تنفیذاً للعقوبة المحكوم بھا علیه على أن تنزل من مدتھا المدة التي قضاھا في التوقیف عن الجريمة المحكوم بھا).
وإن المشرع في نص المادة أعلاه لم يساير بعض التشريعات في الدول الأخرى وضيق من نطاق احتساب مدة التوقيف وحصرها بالعقوبة السالبة للحرية (السجن والحبس)، في حين إن التشريعات ومنها قانون الإجراءات الجنائية المصري وسع النطاق وأحتسب مدة التوقيف من مدة العقوبة السالبة لحرية وعقوبة الغرامة وفق التفصيل الوارد آنفاً.
ومن ما تقدم ونظراً لخطورة إجراء التوقيف واتساع مجالات تطبيقه في الدعوى الجزائية كان لا بد من الأخذ بالاعتبار التطورات الحاصلة في التشريعات المماثلة في بقية الدول والعمل على إدخال أحكام جديدة تتضمن التعويض عن التوقيف ضمن ضوابط محددة توازن بين مصلحة الدولة بعدم هدر المال العام وبين مصلحة الأفراد المتضررين من جراء التوقيف غير المبرر، ونحن ندعو إلى مثل هذه التعديلات لكي يكون التوقيف آخر الإجراءات العملية التي يمكن استخدامها في الدعوى الجزائية وأن لا يكون هاجساً مخيفاً لكل من يُتهم بارتكاب جريمة ذلك لأن الخطأ في استخدام هذا الإجراء وارد نظراً لتراكم الدعاوى وظروف العمل الصعبة المحيطة والسلطة القضائية المختصة لإصدار مثل هذه الإجراءات.
أقرأ ايضاً
- عفوٌ .. عن ناهبي المال العام؟
- الأطر القانونية لحماية البيئة من التلوث في التشريع العراقي
- التقاضي الإلكتروني.. نحو عدالة الذكاء الاصطناعي