الحياة بما أنها متغيرة متحولة متبدلة، فتارة تكون حارة وأخرى باردة وثالثة معتدلة وحلاوتها وطراوتها بتبدلها هذا، وإن كانت على وتيرة واحدة لجمدت وليبست ولأضحت مُرة ولا مرارة العلقم والحنظل، ومن باب المماحكة والمماثلة فالإنسان الذي يعيش في هذه الحياة يتقلب بين أحضانها ويكابد أخطارها ليحفر في أخاديد الزمان جذوة حق أو كبوة باطل أو يبقى يراوح مكانه يندب حظه العاثر دونما أثر.
فالأيام التي يتداولها الإنسان تارة تكون له وأخرى عليه... يوم يسعد فيه وينتشي فرحاً وربما يضحك جذلاً ويرقص طرباً، ويوم يحزن فيه ويمتلئ بؤساً وندماً وربما يبكي ظلماً وألماً ... يوم يعيش فيه بأمن وصفاء وعذوبة وآخر يتقلب في أتون المخاطر والأكدار والنوائب.
ليعلم إذاً أن الدهر يومان، يوم له ويوم عليه فإن كان له فلا يتكبر ويبطر، وإن كان عليه فلا يبتئس ويضجر، بل يصبر ويحتسب، فكلاهما سيرحل ... والذي سيبقى ويخلد هو الموقف إزاء الأحداث ربما يشع نوره لاحقا وإن كان إذ ذاك في صدف في قاع البحر، فالحزن فيه أولى، وما يُرى من سراب حين ذاك فهو بمثابة البحر عندما تعلوه الجيف، وإن كان صاحبه في فرح ينتشى.
رزانة العقل تختبر في الفرح والحزن، فالسوي الذي يحمل همه وحزنه في قلبه ولا تعلو أشداقه ومحياه سوى البشر والفرح والفكاهة، أما الذي في قلبه خدش أو مرض تراه على عكس ذلك تماما يشكو بثه وحزنه للناس وهم إما شامت فيفرح وإما صديق فيحزن، وكلاهما لا يستطيع رفع غمه أو ردم مشاكله.
وبما أن الفرح والحزن هما قدرا الإنسان يحددان مصيره سلبا أو ايجابا، فالعقل السليم هو الذي يسخرهما لكماله، بينما العقل السليب هو الذي يئن تحت سياطهما تسوقانه لهلاكه.
إذن حلاوة الدنيا بفرحها وترحها، وأشد الفرح الذي لا يبطر فيه صاحبه، وأشد الحزن الذي لا يصبر عليه صاحبه حتّى يَبُثَّه أو يشكوه إلى آخرين مثله، والفرح نعمة مثلما الحزن نعمة ولكن بحسن التصرف إزاءهما، فالله سبحانه عندما يقول (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) يعني أنه لا تفرح بكثرة المال في الدنيا لأن الذي يفرح بالمال ربما يأشر ويصرفه في شقاءه، أما إذا ما يصرفه في سعادته فهو نعم القرين، وهكذا الحزن ربما يردي صاحبه في الهاوية إن انهار واستسلم إزاءه، أما من تجلبب بجلباب الصبر والحكمة ربما يكون الحزن والبلاء كفارة له لاسيما إن كثرت ذنوبه، فيصيـّر الحزن فرحا والكآبة انشراحا ولو لسالف ما بقي له من أيام...
فالفقر في طاعته غنى والغنى في معصيته فقر، دخل رجل فقير ليس عليه ما يستره، على رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم) وهو جالس بين أصحابه والى جانبه رجل موسر، ما إن رأى الفقير بهذه الهيئة حتى جمع أطراف ثيابه دون علم منه إن النبي ( صلى الله عليه واله وسلم) يراقبه، فقال له النبي: جمعت أذيالك أخفت أن يمسك من فقره شيء.
- لا
- أخفت أن يصيبه من غناك شيء؟!
- لا
- فقال (صلى الله عليه واله وسلم): فما حملك على ما صنعت؟!
- قال يا رسول الله إن لي قريناً شيطاناً يزين لي كل قبيح ويقبح لي كل حسن واستطرد قائلاً:
- اعترف بأنني مخطئ وأنا مستعد أن اكفر عن الخطأ الذي قمت به اتجاهه بان أهب له نصف ما املك.
- فقال النبي للمعسر: أتقبل؟
- قال: لا
- فقال له الرجل الموسر متعجباً ! ولمَ ؟!
- قال: أخاف أن يداخلني ما داخلك !
توأمة الفرح والحزن الغنى والفقر ما زالت تراود عمر الإنسان تفرحه مرة بمال وبنين وجاه ومكانة، وتحزنه أخرى بموت وشقاء وشظف عيش وعداوة، وتلقي بأثرها في قلبه بنشوة وإقبال في حال، وهمّ وإدبار في حال أخرى، وهو يكابد ما بين هذا وذينك حتى تنقشع أيام حياته وقد انقشعت عنه بحلوها ومرها بفرحها وحزنها وغناها وفقرها، ويبقى ويظل كل يوم لم يعص الله فيه فهو يوم فرح وسرور وإن كان في حزن ومتاعب ومصاعب وفاقة، وكل يوم قد عصي الله فيه فهو يوم حزن وشقاء وإن كان في فرح ولذة ومناصب وراحة، فالفرح في شقاءه حزن والحزن في فلاحه فرح.
أقرأ ايضاً
- احقية الحزن على الحسين عليه السلام
- الطارمية بغدر ...تزّف للوطن...شهداء حزن الاعياد
- صاحب الفكاهة والحزن