اتذكر في ايام طفولتنا ، وتحديدا في محلة الجمهورية / محافظة البصرة ، أن امرأة ولدت طفلا ، أعتقده الجميع مقعدا لا يستطيع المشي رغم بلوغه السنة الخامسة ، فقامت مريم وهو اسم الام الحقيقي بوضع علي وهو ابنها ، في \" طبك\" ودارت به على البيوت صارخة \" حطوا بالطبك شي .. خلوا المكرم يمشي\" اي\" ضعوا ما تجودون به من مال في اناء ُيصنع من سعف النخيل يطلق عليه الطبك، لكي يستطيع الطفل من المشي \" ، ولم تكن هذه المرأة ولا زوجها بحاجة الى النقود بل هي حركة من مشعوذي وسادة ذاك الزمان لجني ما في \" الطبك\" ، وبعدها بقليل مشى علي وهو الآن معوقا فعلا ويللمفارقة ، اذ إقتلعت عينه شظية في حرب من حروب الطاغية المقدسة دائما.
وبعد سنين وسنين مات الطاغية مشنوقا وعاش الوطن حرا .. يا لها من نعمة، ولكن الف \"علي\" نشاهده اليوم على شاشات التلفاز معوق ولا أمل في الشفاء والف \" عمر\" وسعد على قارعة الطرق، ونرى زيا وحنا ، وحتو غادروا الوطن الُمقعد.
وبعد التحسن التدريجي في تطبيب الوطن من عوقه .. فقد مشى علي وعمر وسعد وزيا وحتّو وكاكا كمال ، مشوا بقاماتهم الممشوقة ...ولكن في القلب غصة من عروض التلفاز ووسائل الاعلام من عوق الشباب قبل الشيوخ وجثث مجهولة الهوية واطفال يتعذبون بلا ام ولا حليب ولا وطن ، كل يوم تطالعنا وسائل الاعلام عن وجود شاعر مات على الرصيف واخر ينتظر في مشفى وضيع وعالم يقتل واديب يعزل ومارق يولى واحرار تستعبد، والجميع يصرخون \" يالله يا كريم ساعدوا هؤلاء \" وخلوا بالطبك شيء خلوا الشاعر يمشي\" وخلوا .. وخلوا .. وخلوا... وملياراتنا وبحيرات نفطنا تنتفخ بالونات في جيوب حفنة من الذي مشوا على جثة الوطن وداسوا الضمير بأرجلهم ..
كلّ يوم يمطرنا التلفزيون بعراقي مفجوع ولا حكومة له ولا شعب ، سوى استصراخ ضمائر رئيس الوزراء ورئيس الدولة وغيرهم ممن لا يسمعون الا ما تيسر لهم من سماعه، عبر سلسلة مراجع وذيول يحيطون بهم ، ويشكلون حاجز صوت وصدى لصرخات العراقيين ..يالله .. اهكذا يُكافأ العراقيون ؟؟
يالله لا باب غير بابك .. ولا صوت غير صوتك.... والعراق \"طبك\" ليس للعافية والارغفة الحارة من تنانير الامهات ، بل للتسول ثانية وعلى مرأى من العالم كلّه ..
كانت مريم تشحذ اذا جاز التعبير\" من فرعين وزقاقين او اكثر من محلة صغيرة\" ، اما الان فالشحاذة وطنية بأمتياز من رؤسائنا الذي يشحذون الاخرين اطفاء الديون وحرائقنا مستعرة ،الى البنك الدولي الى الاعانات الدولية والقروض، ووووالجميع يشحذون ، ولكن لمن ؟
فعلي فقد عينه في الحروب وماتت أمه كمدا ، وعمر جثة على قارعة الطريق ، اما توما وزيا فقد غادرا الوطن لانهما لا يمتلكان الجزية، فإكرم به من وطن ، وآكرم به من \"طبك\" وطني كالمنشار الذي لا يشبع .
وديع شامخ