لا يحتاج الزائر إلى أجهزة قياس متطورة ليعرف حجم التلوث الذي يغطي سماء بغداد؛ فالرائحة النفاذة، والغبار العالق، والضباب الرمادي الذي يهبط كل مساء فوق الأزقة والطرق، تكفي وحدها لتقول إن المدينة لم تعد قادرة على التنفس. ومع تفاقم الأزمة البيئية، لم يعد الأمر مجرد انزعاج يومي أو تغير موسمي في جودة الهواء، بل أصبح تهديداً صحياً واقتصادياً وأمنياً يمسّ حقاً دستورياً أصيلاً نصّت عليه المادة 33/أولاً من الدستور العراقي: «لكل فرد حق العيش في ظروف بيئية سليمة». هذا الحق اليوم مهدد أكثر من أي وقت مضى.
وفي مواجهة هذا التدهور المتسارع، أصدر رئيس مجلس الوزراء سلسلة توجيهات صارمة خلال الجلسة الاعتيادية السابعة والأربعين بتاريخ 25 تشرين الثاني 2025، ثم خلال اجتماع متابعة الواقع البيئي في الأول من كانون الأول. التوجيهات تضمنت وقف الحرق العشوائي للنفايات فوراً، وتشديد الإجراءات العقابية ضد المخالفين، وتمكين وزارة البيئة مالياً ولوجستياً لممارسة رقابة فعّالة، إلى جانب إلزام المحافظات والوزارات بالتنفيذ الفوري للقرارات السابقة، وفي مقدمتها قرار مجلس الوزراء رقم 24777 لسنة 2024. وقد شدد رئيس الوزراء على ضرورة «حلول قصيرة وطويلة الأمد» باعتبار أن البيئة جزء من الأمن الاقتصادي والتنموي للدولة.
ورغم أهمية هذه القرارات، تبقى الأسئلة الأعمق مطروحة بلا إجابة:
أين معامل تدوير النفايات التي كانت بغداد بحاجة إليها منذ عقود على الأقل؟
أين الرقابة الفعلية على الانبعاثات الصناعية التي تخرج من معامل، ومولدات، ومحارق، بلا أي التزام بالمعايير البيئية؟
وكيف يمكن لمدينة تضم أكثر من 8 ملايين نسمة أن تواجه موجات تلوث بهذا الحجم دون بنية تحتية بيئية متكاملة؟
الواقع أن العراق، كغيره من الدول التي واجهت أزمات بيئية شديدة، يحتاج إلى التحرك وفق تجارب عالمية ناجحة. الدول التي نجحت في السيطرة على تلوث الهواء – مثل كوريا الجنوبية، سنغافورة، والدنمارك – لم تكتفِ بقرارات حكومية، بل أقامت منظومات رقابية رقمية تقيس الانبعاثات لحظة بلحظة، وفرضت غرامات اقتصادية كبيرة على المخالفات، واستثمرت في تدوير النفايات بنسبة تتجاوز 50%، بينما ما يزال العراق يعتمد – وبشكل شبه كامل – على الطمر والحرق، وهما أكثر الأساليب تدميراً للهواء والصحة العامة.
الخطط المستقبلية لتنقية الهواء في بغداد لا بد أن تتضمن ثلاث ركائز أساسية:
أولاً: إعادة هيكلة قطاع النفايات عبر التحول من الطمر إلى التدوير وإنتاج الطاقة، وتفعيل الاستثمار الخاص، خاصة أن التوجيهات الحكومية الأخيرة تحدثت صراحة عن “تفعيل مشاريع الاستثمارات المعنية بالطمر وتدوير النفايات”.
ثانياً: نظام رقابة صارم على الانبعاثات الصناعية، يشمل محطات توليد الكهرباء، المصانع، محطات الوقود، ومولدات القطاع الخاص، وربطها بمنظومة بيئية مركزية داخل وزارة البيئة.
ثالثاً: خطط تشجير واسعة تعتمد على تقنيات الزراعة الذكية ومقاومة الجفاف، إذ أثبتت الدراسات أن زيادة الغطاء النباتي بنسبة 10% قادرة على خفض ملوثات الهواء بنسبة تصل إلى 25%.
إن التلوث الذي تشهده بغداد اليوم ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة طبيعية لسنوات من غياب التخطيط البيئي. وما نحتاجه ليس فقط أوامر حكومية مهمة كالتي صدرت مؤخراً، بل إرادة تنفيذية تستمر على المدى الطويل، وتشريعات داعمة، وتعاون حقيقي بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع. فحق العراقيين في هواء نقي ليس رفاهية، بل هو أساس الحياة، وأي تأخير في معالجته سيجعل الكلفة البيئية والصحية والاقتصادية أعلى بكثير مما يمكن احتماله.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!