جمال الهنداوي
الازمة الشاخصة في البصرة كجدار في ارض خلاء.. جدار ظاهره نور ونقاء وبياض وحسن سريرة وباطنه غابة من ظلال واشباح مغمسة برائحة الموت والنار والنهب والمواقف الملفقة.. وفوقه احزاب الاسلام السياسي جاثمة مادة ساقيها على طرفيه تختبيء في جهة منه خلف الشعارات المطلبية وتتقنع هتافات التغيير السلمية وتنشب اظافرها في الارض والعرض والمقدرات في الجانب الآخر..
ليس فتحا لو تحدثنا عن امتطاء سياسي مقصود لموجة التظاهرات، ان لم يكن التهيئة الجنائية لمسبباتها، خاصة وان الحديث عن كون المسألة مجرد تصفية حسابات سياسية كان القاسم المشترك ما بين مداخلات جل (ان لم يكن كل) السادة النواب في جلسة البرلمان الاستثنائية حول احداث البصرة والاكثر دناءة كان التعجل اللاهث لاستثمار هذه الاحداث في انتاج وقائع سياسية معينة قد لا تحتاج في جو ديمقراطي سليم لكل هذه الدماء، ولكن ذلك التوحل البواح من قبل الأحزاب السياسية في احداث البصرة قد لا يكون مبررا كافيا للتعامل مع الحركة برمتها حسب تقنيات نظرية المؤامرة العتيدة -وان لم يكن من الحكمة تجاهل هذا الاحتمال الاقرب الى الواقع- فبيننا وبينه دماء هؤلاء الشهداء الذين انتفضوا ضد واقع لا يليق بكينونتهم وانتمائهم لمجتمع ضارب في أعماق القرون، فصور الشهداء، وحدها اكثر من كافية لتوجيه الف اصبع اتهام لكل من تبوأ منصبا مسؤولا في محافظة البصرة..لكن تلك الصور التي تحمل هذه الوجوه النضرة المترعة بالحياة والامل الموؤود هي من تجعلنا نفكر مرتين قبل ان نتعجل بتوجيه الاتهمام الى من قد لا يكون الا منفذا بسيطا لرؤى ومتبنيات من هم اكبر منه واكثر سطوة
نتفق مع الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول في ان على المتابع والباحث ان يضع امامه خارطة قبل المضي قدما في استنطاق الاحداث والمواقف السياسية.. الا في العراق فالمراقب هنا يجب أن يستعين بتقويم سنوي حتى يستطيع ان يجد صلات قد لا تكون ظاهرة للعيان ما بين حدث واخر .
فليس القليل من المراقبين من اثارته تزامن انقطاعات الكهرباء المكررة والطويلة في البصرة مع قرب سريان العقوبات الاقتصادية الامريكية على ايران وبدء عمليات الفرز والعد اليدوي..وهي تلك الانقطاعات التي اثارت الاحتجاجات الشعبية في البصرة والتي خلفت العديد من الشهداء والجرحى ونفس الشيئ ينطبق على تزامن الحديث عن الكتل الاكبر مع التسميم الواسع والكثيف لمحطات المياه في البصرة من خلال تقليل نسب التصفية الى درجات غير مسبوقة.
ان قوى الاسلام السياسي التي تعاني من فقدان مريع للقاعدة الشعبية ورفض كامل من قبل المتغيرات الدولية، تحاول مدارات فشلها العضال في تقديم نموذج مقبول من الحكم الرشيد من خلال تلفح الاحتجاجات المطلبية في البصرة وهي تعرف قبل غيرها ان بقائها على قيد الساحة السياسية مرهون لرهانات متأخرة (او مؤجلة) لبعض القوى الكبرى المؤثرة على المشهد السياسي والامني العراقي والاقليمي، وهذا التدخل هو ما انتج تلك الفورات غير المنضبطة التي اكلت من جرف التظاهرات الشعبية الكثير..
كما أن محاولة قوة الاسلام السياسي في مأزقها الوجودي الراهن سرقة غضب الجماهير والامهم لركوب موجة الاحتجاجات التي هم المسبب الاول لها يدل على فقدان كامل للامل بهذه القوى في ادارة سليمة للملفات المهمة الملحة التي تحقق امال وتطلعات العراقيين، وهم يعرفون ذلك، ويعرفون كذلك ان السلاح المنفلت الخارج عن رقابة الدولة هو وسيلتهم الوحيدة للاستمرار..
وهذا ما يجعل الحديث عن عفوية كاملة للحراك ونزاهته وترفعه عن المقاصد السياسية والنفعية الضيقة يعد نوع من التسفيه المخل بالوعي ولكن في نفس الوقت يعد الحديث عن مؤامرة مكتملة الاركان تشترك بها جماهير غاضبة وميلشيات مندسة واجهزة امن متواطئة فيه الكثير من الخيانة للدماء الزكية التي سقت ارصفة وشوارع البصرة العزيزة.. لسنا من هواة نظريات المؤامرة.. ولكن أي متظاهر سلمي يمتلك اسلحة ثقيلة ويختار اهدافه بدقة واي حركة لا قائد لها الا الماء المالح تستطيع ان تقتحم وتنهب وتحرق مقرات ومباني عامة وقنصليات دول أجنبية في مسطرة من الأهداف التي تخفي(بلا كثير نجاح) نوايا معينة يتردد صداها في أروقة السياسية العراقية المظلمة.
يقول محمود درويش.. أَتحْتَاجُ سَيِّدَةٌ فِي الثَّلاثِينَ أَرْضاً لِتَجْمَعَ صُورَةَ فَارِسهَا فِي إِطَارْ..نعيد السؤال..ونجيب.نحن وحدنا من نعرف على اي وجه من الجدار نعلق صور الشهداء.