د.خالد قنديل
اثنان وخمسون عامًا تمر مضيئة ومحمَّلة بعبق الانتصارات المجيدة، اثنان وخمسون عامًا شاهدةٌ بأجيالِها على النصر المؤزر في جبهة القتال واسترداد الكرامة، هناك؛ حيث انتفض المصريون المؤمنون الشجعان البواسل، وخاضوا أشرس وأذكى وأهم معركة في التاريخ المصري الحديث، ليقولوا للعالم كله: هنا مصر. مصر التي في خاطري وفي دمي، مصر التي يُبذل من أجل ذرة تراب فيها كل نفيس وثمين وغالٍ، فما بالنا وقد كانت قطعةٌ من جسدها بمثابة القلب، مغتصبة ومحتلة. أرض الفيروز سيناء الغالية، التي تخضب ترابها المقدس بالدماء الطاهرة، لتعود كاملة زاهية عافية وتلتئم بجسدها، وتستمر ملاحم النصر جيلًا وراء جيل.
إن معركة السادس من أكتوبر هي السطر الوضاء في كتاب البطولات المصرية، وها نحن بعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه المعركة الحاسمة التي غيرت جميع المعادلات، نقف مجددًا أمام الذكرى الخالدة التي لا يمحوها الزمن، والتي قد حققت معادلة جديدة في تأمل الزمان والمكان، من خلال الحدث الذي تجاوز فكرة الذكرى إلى واقع مستمرٍ من الانتصارات. وليأتي كل أكتوبر ليس فقط لنتذكر الأمجاد والتضحيات، وليس فقط لنستعيد مرويات وحكايات وقصصًا من البطولات التي ربما لم نعلم منها رغم كل ذلك غير النزر اليسير، وليس لنستعيد تلك الأيام الممتلئة بفيض من دروس النصر، ونقف شامخين محييين جنودنا البواسل وأبطالنا من الشهداء الأحياء الذين أناروا دروب العزة للقادمين بعدهم، وإنما مع كل ذلك لنفتخر باستمرار روح النصر في أوصال الوطن وفي عروق الأجيال تلو الأجيال، وكأن نصر أكتوبر هو الرمز الخالد والأمل المتجدد في آن.
وها قد جاء أكتوبر حاملًا معه نسائم المجد، التي عبرت من شرفة الأجداد، لتعم آفاق البلاد، في معادلة جعلت من الحدث رمزًا للنصر باقيًا وواقعًا للعبور متحققًا، وذلك باستمرارية فكر النصر ومنهجه، من إعادة بناء وتنظيم القوات المسلحة، وتجهيز مسرح العمليات الجديد شرق وغرب القناة، ومراحل الصمود والردع وحرب الاستنزاف، ثم مد الجسور وتحطيم خط بارليف الذي قيل إنه منيع، ثم ملحمة العبور ورفع راية الوطن خفاقة فوق ترابه المقدس. لتكون حرب أكتوبر والنصر العظيم ليست فقط معركة عسكرية خاضتها مصر وأثبتت للعالم كله قدرتها وبأسها وعظمتها، وقدرة شعبها الذي قوامه دائمًا من هذا الشعب، على تحدي المستحيل وقهره، والتفوق، ليكون هذا النصر علامة مضيئة في تاريخ العسكرية المصرية العريقة، التي رسخت قيمة استرداد الحق بالإرادة والقوة.
فالحق الذي يستند إلى القوة تعلو كلمته وينتصر، والشعب الذي يعي قيمة وطنه تهون عليه روحه فداء لهذا الوطن، ولن يفرط في ذرة منه حتى تفيض هذه الروح. لكل ذلك وأكثر كان وسوف يظل نصر أكتوبر وتلك الحرب المجيدة بمثابة الرسالة إلى كل جيل، رسالة تقول إن الإرادة صانعة المعجزات، ومعجزة مصر أنها مدرسة العالم في الإرادة والتحدي والاستمرار والمنافسة والبقاء. فكان أن ألهمت روح السادس من أكتوبر عام 1973، الأجيال المتعاقبة لتواجه التحديات مهما كانت، وتبني المستقبل في كل اتجاه. وكما استعاد المصريون جزءًا غاليًا من وطنهم، فقد استعادوا مكانتهم السياسية والإقليمية، وأن بلادهم قادرة على فرض قرارها المستقل وإرادتها.
ومثلما عبر جنودنا وأبطالنا القناة، عبروا مرة أخرى أحراش سيناء وجبالها ليطهروها من دنس الإرهاب، وليكتب أبطال بمداد النصر صفحات جديدة من التضحية والانتصار، وانتصرت الدولة في تلك المعركة الشرسة على عدو لا يختلف عن المحتل غاصب الأرض، وقهرت الإرهاب الذي حاول محو الهوية والزج بالوطن في أتون الرجعية والتطرف والتخلف. وهنا إذا كانت الجبهة ليست تقليدية، فإن مصر سامقة وتطأ كل الجبهات.
ومن ميدان القتال والدفاع عن الوطن ومقدراته، نرى الآن كيف أن القوات المسلحة المصرية، لا تزال على العهد باقية كصمام أمان ودرع صلب يحيط الوطن والمواطنين بسياج من الأمان. ومن خلال خطوات غير مسبوقة اعتمد جيشنا العظيم خطة تطوير في جميع الأفرع والأسلحة، حيث تنوعت مصادر التسليح، وأُقيمت الشراكات من كبريات الدول في مجال التصنيع العسكري، حتى تبوأ الجيش المصري مكانة متقدمة وملحوظة بين جيوش العالم. هذا التطور المواكب لتحديات فرضتها ظروف إقليمية متغيرة ومتسارعة، لتطبق الدولة خطة تسليح تتسق مع رؤية الدولة في حماية حقوقها السيادية، وتأمين وحماية مصالحها.
وفي ميدان البناء تبارك روح أكتوبر معركة التنمية، ويبرز الإصرار في مواجهة العجز واليأس المتراكم عبر العقود ومحدودية الإمكانات، بسلاح الإرادة والتطلع الواثق إلى مستقبل أزهى. وأُنشئت قناة السويس الجديدة، ونُفذت المشروعات العملاقة، في البنية التحتية من طرق، وكهرباء، ومياه، وفي الاقتصاد من زراعة وصناعة، واستزراع سمكي وتعدين، واجتماعيًا في التعليم، والصحة، والإسكان، وتكنولوجيًا في البرمجة، والذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي.
ولا ننسى العاصمة الإدارية الجديدة والمدن الذكية والمبادرات التي مثلت وثبة كبيرة ونقلة نوعية في حياة المجتمع المصري في المدن والمحافظات والقرى. كما أن نصر أكتوبر انتصار للهوية الوطنية ولإيمان الشعب بنفسه وبوطنه وقيادته، مهما واجه من ظروف، واستطاع أن يبقى صلبًا في مواجهة محاولات التشويه والتزييف التي تتدفق عبر المنصات والوسائل المغرضة الكارهة، من قبل أقزام حاقدين لا تاريخ لهم.
وفي أيامنا الراهنة، لا نزال نرى أثر هذا الانتصار العسكري والسياسي منعكسًا بعنفوانه على قدرة الدولة المصرية على الوقوف راسخة في وجه كل ريح عاصفة، تبني كيانها بناء صلبًا عتيدًا وتؤسس مستقبلًا فارقًا وسط محيطها وبين كل دول العالم، تصيغ مواقفها الخارجية دون أي تبعية، بل إنها بوصلة للآخرين والثقل المؤثر الذي لا يمكن الاستهانة به، والقوة التي تحمي مصالحها في الملفات الإقليمية والدولية المعقدة.
وهنا نجد روح أكتوبر في التعامل من موقع القوة لا الضعف والتمسك بالحق، ورفض التفريط. وفي هذه اللحظة التي يمر فيها العالم كله والمنطقة بمتغيرات وتشتعل الصراعات، تقف مصر بهذه الروح المقاومة لأي ظرف تواصل البناء وتصل إلى مشارق الأرض ومغاربها بعلاقات وطيدة قائمة على الاستقلالية وقوة التأثير، لتفرض رؤيتها في تبني سياسة الاتزان الاستراتيجي التي تنتهجها تجاه القضايا الإقليمية والدولية، عبر محددات وطنية واضحة تراعي أبعاد الأمن القومي المصري والسعي لإقرار السلام الشامل القائم على العدل ودعم المؤسسات الوطنية واحترام إرادة الشعوب.
ومن هنا تتجلى روح أكتوبر وانتصاراته ونحن نرى كيف أن السياسة المصرية الخارجية ترفع شعار الندية والالتزام والاحترام المتبادل وعدم التدخل في شئونها أو شئون دول المنطقة، رافعة لواء السلام للأرض بالقوة والحكمة والحنكة وبحساب تاريخ طويل شاهد على عزيمة صلبة وممتدة لا تقل عن عزيمة الجنود والأبطال الذين عبروا، ورفعوا العلم خفاقًا فوق الضفة.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!