تغلفت سماء بغداد في غضون أيام بطبقة رمادية كثيفة وانتشرت معها روائح ثقيلة، وقد جمعت وزارة البيئة العراقية شيئين لكل منهما حالته الخاصة لتسويغ العجز عن معالجة التلوث بصورة عامة، اذ قال المتحدث باسم الوزارة لؤي المختار، إن العاصمة تنتج أكثر من 10 آلاف طن من النفايات يوميا تُحرق بطرق عشوائية لغياب مواقع الطمر الصحي، ما يجعلها أحد أبرز مسببات تلوث الهواء.
ولكنه قال أيضا في التصريح المنشور نفسه، أن الضباب الدخاني الذي نراه اليوم، هو نتيجة لظاهرة طبيعية تسمى الانقلاب الحراري، ففي موسم تغير حرارة الجو، أصبحت درجة حرارة الجو القريبة من سطح الأرض أبرد من درجة حرارته في الطبقات الأعلى، وهذا حدث بسبب هدوء الرياح، فأصبح هنالك انحباس للغازات لمدة 24 ساعة، وتركزت الانبعاثات وحصل هذا الضباب، واوضح: هذه حالة مناخية، ومشخصة في كثير من المدن الكبرى، ومن أشهرها في خمسينات القرن الماضي كانت في لندن، وهذه الأشياء معروفة، بحسب تعبيره.
وفضلا عن هذا التناقض يشير المسؤول بالقول، أن معالجة هذا الواقع يتطلب “خطوات جدية”. ولكن أليست وزارة البيئة هي المسؤول التنفيذي الاول عن أمور البيئة وحمايتها والخطوات الجدية يفترض أن تكون بيدها؟!
ان موضوع تلوث الهواء في بغداد وتصريحات المسؤولين بشأنه من القضايا الأكثر إلحاحا التي تثير كثيرا من الجدل والاستغراب، ارتباطا بالوضع الصحي للناس والإصابات التنفسية التي تتفاقم.
الاقرار بأن حرق أطنان النفايات يوميا بطرق عشوائية في ظل غياب مواقع الطمر الصحي هو أحد أبرز مسببات تلوث الهواء في العاصمة، وهذا يمثل مشكلة بيئية ناتجة عن قصور إداري وتنفيذي.
ان عزو ظاهرة الضباب الدخاني الحالية إلى "ظاهرة طبيعية ومؤقتة" وتفسيرها بالانقلاب الحراري والظروف الجوية وهدوء الرياح وانحباس الغازات والملوثات في الطبقات القريبة من سطح الأرض لمدة مؤقتة يمثل التفسير المناخي للظاهرة.
ويرى بعض المختصين، ان التصريحين قد لا يكونان متناقضين بشكل مطلق على المستوى العلمي، ولكنهما ازدواجية غير مقنعة على مستوى المسؤولية والتنفيذ.
فظاهرة الانقلاب الحراري هي ظاهرة مناخية معروفة، حيث تصبح طبقة الهواء القريبة من سطح الأرض أبرد من الطبقة التي تعلوها، مما يمنع صعود الملوثات وتشتتها، ويؤدي إلى تراكمها على شكل ضباب دخاني. هذا التفسير يركز على الآلية التي جعلت التلوث مرئيا وكثيفا في هذه الأيام.
اما الجانب البيئي (مصادر التلوث) فيتمثل في ان اعتراف المسؤول بإنتاج 10 آلاف طن من النفايات وحرقها عشوائيا، فضلا عن انبعاثات المركبات القديمة، ومصانع الطابوق غير الملتزمة بالمعايير، ومصافي النفط ومحطات الكهرباء التي باتت تتوسط بغداد، هذه كلها هي المصدر الأساسي والملوثات التي انحبست.
والتناقض يكمن في طريقة تقديم المشكلة، فبدلا من التركيز على أن الانقلاب الحراري كشف وأظهر خطورة تلوث الهواء المزمن في العاصمة الناتج عن الإهمال الإداري والتنفيذي، جرى تقديم الظاهرة الطبيعية كـ "مسوغ" أو كـ "السبب الرئيس" لتخفيف حدة المسؤولية عن المصادر البشرية المستمرة للتلوث.
وما يحدث في بغداد يمثل صورة مصغرة للتدهور البيئي الواسع في العراق، الذي يعكس بالفعل انعدام العمل الجاد وتبريرات المسؤولين غير المقنعة، اذ لا تتواجد مواقع طمر صحي كافية فالبلد يمتلك موقعين نظاميين فقط على وفق تقارير سابقة، مما يؤدي إلى حرق النفايات العشوائي، وهو مصدر رئيس للملوثات السامة وغاز الميثان.
وتشكل مصانع الطابوق والمصانع التي تحرق المشتقات النفطية مصدرا هائلا للانبعاثات السامة (أكاسيد النيتروجين والكبريت والكربون).
وتشير تقارير إلى أن عوادم المركبات (أكثر من 3 ملايين مركبة في بغداد) تشكل نسبة كبيرة من الانبعاثات، بخاصة المركبات القديمة التي لا تخضع لفحص العادم بشكل صارم؛ كما ان موقع مصفى الدورة ومحطة كهرباء جنوبي بغداد وسط التوسع العمراني يفاقم المشكلة.
وحين يشير المسؤول في وزارة البيئة إلى أن المعالجة تتطلب "خطوات جدية"، فإن هذا يثير السؤال: أليست هذه الخطوات هي صميم عمل الوزارة؟! فوزارة البيئة هي الجهة الرقابية التي تضع المعايير وتتابع الالتزام بها.
اللوم غالبا ما يجري تحويله إلى جهات تنفيذية أخرى (مثل أمانة بغداد لإدارة النفايات ومواقع الطمر، أو مديرية المرور العامة للسيطرة على عوادم السيارات).
هذا التحويل للمسؤولية يغطي على غياب التنسيق والعمل المشترك الحاسم بين الوزارات والمؤسسات التنفيذية في بلد يعاني من بنى تحتية متهالكة وقوانين بيئية غير مفعلة.
والتلوث لا يقتصر على الضباب الدخاني المؤقت، بل هو خطر مزمن يرفع معدلات الأمراض التنفسية، والحساسية، وأمراض القلب والشرايين، لاسيما بين الفئات الضعيفة.
وقطعا فان وزارة البيئة هي المسؤول الاول عن أمور البيئة وحمايتها، والخطوات الجدية يفترض تفعيلها وتنفيذها بوساطتها.
وزارة البيئة هي المظلة الرقابية والتشريعية المعنية بحماية البيئة؛ ولكن في النظام الإداري العراقي، تنفيذ المشاريع الكبرى مثل بناء مواقع الطمر الصحي الحديثة، أو مشاريع النقل الجماعي الصديقة للبيئة، أو تحديث المصانع، يقع على عاتق وزارات وهيئات أخرى (مثل وزارتي الإعمار، والصناعة، وكذلك أمانة بغداد).
المشكلة الحقيقية تكمن في عدم فرض المعايير البيئية بشكل صارم على تلك الجهات التنفيذية والمخالفين، و عدم تفعيل القوانين البيئية والتشريعات المطلوبة بجدية؛ والضعف الرقابي وعدم تواجد إرادة سياسية حقيقية تمنح الملف البيئي الأولوية والتمويل المطلوبين لمعالجة المشكلات جذريا بدلا من تبريرها أو الاكتفاء بالتحذيرات.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!