تتفاقم يومياً التصريحات النارية المتبادلة بين إسرائيل وتركيا منذ سقط الأسد في سوريا. و ينذر محتوى هذه التصريحات في ظاهرها بصراع عميق بين سياستين تتنافسان للهيمنة الجيوسياسية على الشرق الأوسط عامة وسوريا خاصة. ويسعى هذا الصراع إلى استقطاب التحالفات الإقليمية والدولية الفاعلة، تحت عناوين عريضة ظاهرها مصالح دول المنطقة العالم، وحقيقتها يقظة نزعات إمبراطورية تاريخية.
فتركيا لم تجف في شرايينها دماء أصول الإمبراطورية العثمانية على الرغم من الانتماء السياسي إلى الأتاتوركية التي حاربت الإسلامية العثمانية، وانتصرت عليها، وكادت تمحو آثارها، لولا تدرج انبثاق الأحزاب الإسلامية في الحياة السياسية التركية بدءاً من حزب النظام الوطني الذي أسسه نجم الدين أربكان سنة 1970، ثم حزب السلامة الوطني، وحزب الرفاه الذي تم حظره عام 1998، ومروراً بأحزاب الرفاه الجديد، و السعادة، و الاتحاد الكبير، و الطريق الوطني. وانتهاء بحزب العدالة والتنمية الحاكم منذ (2002) الذي يصف نفسه بأنه “ديمقراطي محافظ”، لكنه ينزع إلى الأصول الإمبراطورية العثمانية، ويخاتل في طروحاته السياسية حذراً من خطر داخلي، وهو الدستورية العلمانية للبلاد، ومن خطر خارجي يتمثل بدول الإقليم التي تخشى عودة الأحزاب الإسلامية إلى الساحة العربية، فضلاً عن الريبة العالمية من يقظة الأحزاب الإسلامية.
وتتخذ تركيا من تهديد الأحزاب الكردية المناوئة لها، ولا سيما المنضمة إلى قسد في سوريا، ذريعة للأمن القومي التركي، لذلك تعمل جاهدة على الهيمنة على الشمال السوري في ظلال هذه الذريعة، مستفيدة من علاقاتها الخاصة مع قوى الدولة السورية الجديدة. ويشكل هذا الواقع للسياسة التركية تجاه الكرد الانفصاليين تصادماً مع سياسة إسرائيل تجاه الجنوب السوري آخر طوق لم يخضع لإسرائيل.
تطمح إسرائيل -في عمق تكوين سياساتها الإستراتيجية- إلى تأسيس دولة الأزرق الممتدة ما بين الفرات و النيل، وإقامة ممر داود، وهي مشاريع توسعية ذات نزعة إمبراطورية دينية تاريخياً، وأتيح لنتنياهو -في التحولات السياسية التي كانت إسرائيل أهم محركيها- أن يستعيد الروح الإمبراطورية يستثمرها في براغماتية تثير النزعات التاريخية لدى جمهوره.
بات نتنياهو يردد في تصريحاته المستمرة عزم إسرائيل على تنفيذ مشروع “ممر داوود”. حيث صرح مؤخراً: “لن نسمح لقوات هيئة تحرير الشام أو الجيش السوري الجديد بالدخول إلى المنطقة الواقعة جنوب دمشق، ونطالب بنزع السلاح بشكل كامل في جنوب سوريا ومناطق القنيطرة ودرعا والسويداء من قوات النظام الجديد”.
يربط هذا الممر جغرافياً بين الكيان الصهيوني، والجنوب السوري من الجولان إلى الفرات، وهو مصمم تاريخياًِ في الخرائط الإسرائيلية لتحقيق النبوءة التوراتية “الدولة اليهودية الكبرى”.
يشكل تصادم الأهداف التركية و الإسرائيلية في سوريا صراعاً مباشراً، يقوده سياسيي البلدين وفق صراعات تكتيكية متصاعدة، تنذر بتحوله إلى حروب استنزافية متعددة الأشكال وطويلة الأمد.
الخطير في هذا الصراع التكتيكي أنه يشكل تخادماً إستراتيجياً للطموحات الإمبراطورية لتركيا وإسرائيل، لأن تخوفات كلاهما يعطيهما الذريعة لتقاسم النفوذ على سوريا، وتبديد مقومات الدولة السورية ومشروع بنائها الجديد، وبالتالي سيؤدي هذا الصراع التكتيكي إلى تخادم إستراتيجي لطموحاتهما، من غير خسائر فادحة، تنتج عن صراع حربي على الأرض، وهذه هي أنماط الصراعات السياسية الانتهازية التي تتقنها النزعات الإمبراطورية، بصورة حرب باردة على شفا صدوع السياسات الإقليمية، فتردد اهتزازتها لتصدع المحيط الضعيف للإمبراطوريات التي لا تنام إلا على حلم عودتها.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!