أعلنت وزارة الكهرباء العراقية، عن توقف الغاز الإيراني بالكامل، فيما قالت إيران أنها توقفت عن ضخ الغاز إلى العراق لظروف طارئة؛ وفي الوقت نفسه يقول وزير النفط العراقي ان "وزارة النفط حققت الاكتفاء الذاتي لمادة زيت الغاز "الكاز" ونحن في مرحلة التصدير في إطار سعي الوزارة لزيادة الإيرادات لخزينة الدولة"؛ فكيف يحدث مثل هذا التناقض، لاسيما أن تزويد الكهرباء في كثير من المناطق بخاصة في بغداد شهد انقطاعات يومية كبيرة امتدت إلى 18 ساعة في بعض الأحيان؟
التساؤل يعكس فجوة فنية وإدارية يراها كثيرون تناقضا، فيما يقول البعض انها ناتجة عن اختلاف نوع الوقود الذي تحتاجه محطات توليد الطاقة. فلماذا لا يحل "الكاز" العراقي أزمة "الغاز" الإيراني فورا، و لماذا "الكاز" متوفر والكهرباء منقطعة؟
بحسب متخصصين فان، أغلب المحطات الحديثة والكبيرة في العراق (مثل محطات بسماية والمنصورية والصدر) صممت لتعمل حصرا بالغاز الطبيعي، هذه المحطات تفقد قدرتها الإنتاجية فور توقف الغاز، وهو ما تسبب بخسارة ما بين 4000 إلى 4500 ميغاواط؛ و هناك محطات يمكنها العمل بـ"زيت الغاز" (الكاز) كبديل، لكن كفاءتها تتراجع بشكل كبير عند استعمال الكاز، وتتطلب عمليات صيانة أكثر تكرارا وكلفة، و حتى مع توفر "الكاز" محليا، فإن نقله بالصهاريج إلى المحطات لا يعوض سلاسة وقوة ضخ الغاز عبر الأنابيب، مما يخلق عجزا في سرعة تلبية الطلب.
وإعلان الجانب الإيراني عن توقف الضخ بسبب "ظروف طارئة" يرتبط عادة بموسم الشتاء، فإيران تواجه ذروة استهلاك محلي للتدفئة، ومع انخفاض درجات الحرارة، تعطي الأولوية لسكانها على حساب التصدير، وهو "سيناريو" يتكرر سنويا ويضع المنظومة العراقية في حرج كبير.
صحيح ان وزارة النفط حققت طفرة في تكرير المشتقات النفطية (بنزين، كاز، نفط أبيض) بفضل تشغيل مصفى كربلاء وتوسعة مصافي البصرة وبيجي، لكن هذا الاكتفاء هو للمشتقات التي تستعمل في النقل والتدفئة والمولدات الأهلية، وليس "الغاز الطبيعي" الذي يكون قطاع التوليد الوطني العملاق بحاجة له.
ان الإنتاج المحلي (الكاز) فائض وجاهز للتصدير يستعمل كبديل طوارئ بفعالية أقل ولا يغطي كل المحطات، و الغاز المصاحب من مشاريع الاستثمار (مثل جولة التراخيص الخامسة) لم تكتمل كليا ويستمر الاعتماد على الاستيراد لسد الفجوة.
وزارة الكهرباء أعلنت أنها تعمل مع وزارة النفط لزيادة حصص "الوقود البديل" للمحطات التي تقبله، لكن الحل الجذري لن يكون إلا بعودة ضخ الغاز الإيراني أو اكتمال مشاريع استثمار الغاز العراقي لإنهاء التبعية للخارج، ولكي يتوقف العراق عن الاعتماد على الغاز المستورد (سواء من إيران أو غيرها)، فإنه بحاجة إلى استثمار "الغاز المصاحب" الذي يستخرج مع النفط ويحرق حاليا، فضلا عن تطوير حقول الغاز الحر.
وتوضح الحكومة العراقية انها وضعت خارطة طريق لاستقلال الغاز العراقي تمثلت في جولة التراخيص الخامسة بإسهام شركات صينية وإماراتية لخطة 2025 - 2026 تضيف نحو 800 - 1000 مقمق (مليون قدم مكعب قياسي) يوميا، وهي كافية لتشغيل عدة محطات كبرى؛ ويتواجد أيضا مشروع "نبراس" وشركة غاز البصرة شل، ميتسوبيشي والجانب العراقي، و يهدف في عام 2026 للوصول إلى قدرة معالجة تبلغ 2000 مقمق، مما يقلل حرق الغاز بنسبة كبيرة جدا.
وثمت مشروع "توتال إنرجيز" المتكامل لشركة توتال الفرنسية 2027 - 2028 هو المشروع الأضخم، ويتضمن استثمار الغاز في خمسة حقول نفطية بالبصرة لتوليد 600 مقمق في مرحلته الأولى، و مشروع تطوير حقل عكاز والمنصورية بشركات عالمية ومحلية 2026 - 2027 لتطوير حقول "الغاز الحر" (وليس المصاحب للنفط) لتوفير مصدر طاقة مستقر ومستقل.
ولكن لماذا يستغرق الأمر كل هذا الوقت لتوفير الكهرباء للسكان؟
هناك ثلاثة عوائق رئيسة واجهت البلد في السنوات الماضية، أولها مشكلات تتعلق بالبنية التحتية، اذ ان بناء منشآت معالجة الغاز أكثر تعقيدا وكلفة من حفر آبار النفط، وان هذه المشاريع تتطلب استثمارات بعشرات المليارات من الدولارات، التي تعطلت لسنوات بسبب الأزمات السياسية والأمنية.
و بالتوازي مع الغاز، يعمل العراق على الربط الخليجي و الربط مع الأردن ومصر، ومن المتوقع أن تدخل هذه الخطوط الخدمة الفعلية بكامل طاقتها في عام 2026 لتكون "صمام أمان" عند توقف الغاز، بحسب مسؤولين.
وتشير التوقعات المتفائلة والخطط الحكومية الحالية إلى أن العراق قد يصل إلى الاكتفاء الذاتي من الغاز بحلول عام 2027 أو 2028، إذا استمر العمل بهذه الوتيرة من دون معوقات سياسية أو أمنية، وحتى ذلك الحين، يظل "الوقود البديل" (الكاز والنفط الأسود) هو الحل "الترقيعي" الوحيد للأزمات الطارئة.
ان تحويل المحطات للعمل بـ "زيت الغاز" (الكاز) بدلا من الغاز الطبيعي ليس مجرد عملية تبديل بسيطة، بل هو اجراء "اضطراري" له ضريبة باهظة من الناحية الفنية والمالية، فالمحطات الغازية بحسب متخصصين، صممت لتعمل بوقود نظيف (الغاز)، و عند استعمال الكاز، تنخفض قدرة المحطة الإنتاجية بنسبة تتراوح بين 15% إلى 25%. بمعنى أن المحطة التي تنتج 1000 ميغاواط بالغاز، قد لا تتجاوز 800 ميغاواط عند تشغيلها بالكاز، مما يعمق أزمة العجز في الشبكة الوطنية.
كما ان الكاز وقود "ثقيل" مقارنة بالغاز، واحتراقه يخلف مواد صلبة وتراكمات كربونية على المحركات قد تؤدي لتوقف المحطة فجأة، و بسبب تواجد نسبة من الكبريت والمعادن في الكاز، يقصر العمر الافتراضي لأجزاء المحطة الحساسة.
في الحالة الاعتيادية (الغاز)، تحتاج المحطة لصيانة دورية كل عدة أشهر، أما عند استعمال الكاز، تتضاعف الحاجة لعمليات "غسل التوربين" بمعدل مرتين أو ثلاث مرات أكثر، فضلا عن تلف المصفيات (الفلاتر) بسرعة كبيرة نتيجة شوائب الوقود السائل، مما يرفع تكلفة قطع الغيار الاستهلاكية؛ و هناك فارق سعري هائل يرهق ميزانية الدولة، فالغاز غالبا ما يكون أرخص ويصل عبر الأنابيب بتكلفة نقل منخفضة.
والكاز، حتى لو كان منتجا محليا، فإن قيمته السوقية (كمادة يمكن تصديرها بالدولار) أعلى بكثير من الغاز و استغلاله في التوليد يعني "فرصة ضائعة" لبيع هذا الوقود في السوق العالمية، فضلا عن تكاليف نقله بآلاف الصهاريج يوميا، وهو ما يمثل عبئا لوجستيا وماليا ضخما.
واحتراق الكاز يطلق كميات أكبر بكثير من غاز ثاني أكسيد الكربون والكبريت، مما يجعل المناطق القريبة من المحطات (مثل منطقة الدورة في بغداد) تعاني من تلوث بصري وبيئي واضح (دخان أسود) لا يظهر عادة عند العمل بالغاز الطبيعي.
التعليقات
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!