ابحث في الموقع

أأنت العراقي أم أنــــــــا ؟

سألت والدي رحمه الله مرة عن سر قارورة صغيرة مملوءة بالتراب كان يحمله معه أينما ذهب. فأجابني بأن عمرها هو عمر غربته كلها عن العراق . لقد رافقت هذه الحفنة الصغيرة من تراب العراق غربته القاسية و الطويلة. كان يتحدث عنها و في عينيه وميض يتألق تارة و يخبو تارة أخرى. و كأن لسان حاله يقول :

طوراً تكاثرني الدموع و تارة

آوي إلى أكرومتي و حيائي

و كنت أقول في نفسي : من عادة الناس أن تعيش في أوطانها لكن قدر والدي أن يحمل العراق معه.

لم يكن الوطن بالنسبة إليه جواز سفر قديم أو لهجة ٍ عراقية لم يستطع نسيانها على الرغم من سنين الغربة السبع و الثلاثين. كان العراق قضيته و هاجسه حتى أشبع عروقنا بحبه و رسم في أحلامنا صورته .

كنت صغيراً في الغربة و كبرت فيها لكني كنت أكتب عن العراق شعرا ً و كأني أراه. والدتي التي خرجت منه طفلة ، اليوم لها أحفاد. و هي كعادتها لا تزال تحلم برؤية العراق. هذا الحلم الذي يمنعها عنه اليوم مرضها القاسي و تعب الغربة المرّة.

كان هذا و ما يزال ضريبة الوطن.

الوطن الذي حمل والدي ترابه فمات يلفّه تراب الغربة. و هو ذاته الذي حلمنا به فأبى أن يمنحنا مجرد الهوية. الوطن الذي قال فيه الجواهري رحمه الله: أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته ... وكياني منه أشطار . فمات غريبا ً.

نعم ، العراق كريم مع الجميع إلا مع أبنائه.

مضياف حتى الثمالة لكن أهله عطاشى يبيتون.

يمنح عراقيته للجميع و يحرم منها من ضحّى لأجله.

يدوس ترابه الغرباء و نحمل في الغربة ترابه.

أي عراق هذا الذي حُمّلنا ذنوبه صغارا ً فأبى أن يضمّنا كبارا.

و ما هي قيمة الوطن إن لم يكن للإنسان قيمة فيه. هل كُتِب علينا أن نبحث عن العراق في دفاتر الذكريات و الصور القديمة ؟

اليوم و أنا أتذكر قارورة التراب ، أتساءل في نفسي : هل أعطي ذات القارورة لابني و أحمّله أعباءها أم أملؤها من تراب وطن جديد ؟

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!