بقلم: حسن كاظم الفتال
في بادئ الأمر، أُعلن بأني غير معنيٍ وغير قاصدٍ للحديث عن نشأة الموكب وكيفية تأسيسه، إذ أن هذه المسألة لعلها معلومة لدى الجميع، خصوصًا من المعنيين بشؤون الشعائر الحسينية.
والحديث عن هذا الموكب المبجل الموقر المهاب يستغرق الكثير الكثير، إنما اختصاراً أقول: منذ أن أبصرنا النور، كنا نجد أنفسنا محمولين على أكتاف آبائنا وسط زحام مع أناس يهرولون بهيئةٍ وصورةٍ أصبحنا تباعاً لم نعهدها في الأيام العادية بهذه الهيئة والصيغة، خصوصاً بعد أن تقدمنا بالعمر وأصبحنا ندرك أموراً كثيرةً، ونحرص كثيراً على المشاركة في الموكب دون أن يمر عام من غير مشاركة.
أناسٌ كنا نشاهدهم وهم يشاركون بالركضة وكأنهم في عالم آخر، يتخلون عن كل شيء، فتنتابنا الدهشة إذ لم نشاهد فيهم الأناقة نفسها التي نلاحظها في الأيام العادية، من تلك التي تسر الناظر، والتي يهتمون بها غايةَ الاهتمام، كتحسين الهندام وجماليته ونظافة الملبس والأناقة. حفاةً، غير مبالين حتى بكل ما يرتبط بالحياة اليومية. صاحبُ عمامةٍ سوداء كانت أو بيضاء، العمامةُ مفلولةٌ تستقر على كتفه مبعثرةً، يعتليها الغبار الذي يتطاير من مرور الموكب على الرمال. رجلٌ ذو هيبةٍ ووقارٍ كان يُزَيِّن هامتَه بعقاله المتشرف، إنما فُكَّ طيُّه وأصبح كالطوق في رقبته ولم يكترث به. وآخرُ تتدلى عباءتُه وتلامس الأرضَ وتصطبغ بالرمل، وهكذا من هذه الصور التي تبرهن أن الجميع مستغرقٌ بذكر الحسين عليه السلام فحسب. وآخرون يتجاهلون ما كان وما يكون.
وكم كنا نسمع وصرنا نشاهد الكثير من المسؤولين وحتى الملوك والرؤساء كانوا يتشرفون بالمشاركة في ركضة طويريج، ولم نرَ مسؤولًا تصاحبه حماياتُه وسياراتُه الفارهة الفخمة. منهم من يهرول بملابسه الخاصة، وآخرون يكتفون بارتداء الدشداشة، ولم يلتفت لهم أحدٌ ولا هم يلتفتون لأحد، وهذه حقيقةٌ يدركها القدماء من كبار السن والمعاصرين للمواكب والشعائر الحسينية، وبالأخص موكب عزاء طويريج.
ولعل بعض هذه الصور ما زالت تتكرر في هذا الزمن، وهي إن شاء الله نعدها خالصةً لوجه الله، وحزناً على مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام)، ومواساةً لجده وأمه وأبيه (صلوات الله عليهم أجمعين)، فضلًا عن كسب الأجر والثواب.
ومما لا يرقى له الشك ولا ينوبه ريبٌ ولا يغيب عن ذهن أحدٍ تلك الحقيقةُ التي تفصح عن أن الموكب، رغم تشرف أبناء قضاء طويريج بتأسيسه، لكنه ما عاد يقتصر على مشاركة أهل طويريج أو حتى أهل مدينة كربلاء المقدسة، ولا حتى على العراقيين، بل هو موكبٌ عالميٌ دوليٌ يشارك به من مختلف الأقطار ودول العالم، من العرب والأجانب، ومن مختلف الأقليات والأجناس والتوجهات، وحتى من مذاهب وأديان أخرى، وهذا واضحٌ ومعلومٌ لدى الجميع، لا ينكره أحد.
والكثير من مواطني بعض الدول يَقْدِم خصيصاً في شهر محرم الحرام أو في اليوم العاشر بالذات إلى مدينة كربلاء المقدسة، متوجهاً إلى قنطرة السلام من أجل نيل شرف المشاركة في هذا الموكب العالمي العظيم.
واعتاد الناس جميعاً أن تكون الشعارات التي تُرفع والهتافات التي تُطلق حسينيةً بحتةً، وأشهرها نداء (يا حسين.. يا حسين)، لا علاقة لها بالأحداث السياسية ولا بما يجري في الساحة السياسية ولا أحداث الساعة، إلا ما ندر أو ما يتعلق تعلقاً مباشراً بالقضية الحسينية، على سبيل المثال كالمساعي والمحاولات التي جرت والدعوات لمنع الشعائر أو الموكب بالذات وما يشابه ذلك، وهذا ما تعرض له الموكب في حقب زمنية معينة ماضية.
وكم حاولت وجهدت وحرصت بعض الحكومات، وفي حقب معينة، القضاء على هذا الموكب من ناحية، ومن ناحية أخرى قد حاولت بعض الحكومات أن تُجَيِّر الموكب لصالحها، إنما لم تفلح، ولعل بعضنا يذكر في نهاية ثمانينيات القرن الماضي عندما جندت السلطة بعض أفرادها وأرسلتهم ليندسوا في الموكب وهم يحملون صوراً وشعارات سياسيةً كُتبت على اللوحات تمجد السلطة، ولكن أُنزلت اللوحات من قبل الجموع المشاركة بالموكب ولم يفلحوا في مسعاهم.
وقد حرص الحسينيون وأبناء وأحفاد مؤسسي هذا الموكب أن يجردوا الموكب من التداخلات السياسية، حفاظاً على هيبته وخصوصيته الحسينية.
إن ما يميز هذا الموكب خصوصيةً قد ينفرد بها، إذ إنه تأسس بشكل تلقائي عفوي، بخلوص النية والإحساس العميق بهول مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام)، أسسه أناسٌ عقائديون آلمتهم المأساة وأدمت قلوبهم.
وهذه الحقيقة يدركها الحسينيون والمؤسسون والمشاركون في الموكب، والكل يحرص على أن يظل هذا الموكب محافظًا على تدفقه الحسيني العظيم، فإن فيه تًحْمَر الصدور من اللطم وتقرح الجفون من انهمار الدموع حزناً على سيد الشهداء (عليه السلام).
وهذا ما يدعونا أن نقول لمن يحرص أن يقحم بعض الإشارات للسياسة والسياسيين، ويرفع شعارات يطالب بها السياسيين بأمر أو إجراء معين، نقول لهؤلاء الأعزة: أيام السنة كثيرة، والمناسبات متعددة، والساحات واسعة، وبوسعنا أن نعرض ما نريد عرضه في مكان آخر وموعد غير هذا الموعد، بعيداً عن هذا التجمع الحسيني العالمي البهي العظيم، الذي تُحرق أثناء مروره الخيام، فيهرع المشاركون ليخمدوا النيران، ليعلنوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنهم جاؤوا لمواساته، وقلوبهم تلتهب بنار الحزن واللوعة والأسى على سبطه وريحانته الإمام الحسين وأهل بيته الميامين (عليهم السلام جميعاً).
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!