ابحث في الموقع

البرلمان العراقي بين الوهم والواقع.. نواب بلا مشروع ومقاعد بلا وظيفة

البرلمان العراقي بين الوهم والواقع.. نواب بلا مشروع ومقاعد بلا وظيفة
البرلمان العراقي بين الوهم والواقع.. نواب بلا مشروع ومقاعد بلا وظيفة

بقلم: علي محمود الأبرز

 

بعد أكثر من عقدين على التحول السياسي في العراق التساؤلات لم تعد تدور حول نجاح النظام البرلماني من الناحية الشكلية بل بات مطروحا بحدة هل يصلح هذا النظام اصلا للبيئة العراقية المركبة وهل استطاع البرلمان ان يمارس دورا سياديا يليق بمكانته كاعلى سلطة تشريعية ورقابية ام ان بنيته ووظيفته والاشخاص الذين يشغلونه تآكلوا جميعا تحت ضغط المحاصصة والصفقات وضعف التمثيل الحقيقي.

النقاش لم يعد نظريا فحسب فالمواطن الذي لا يرى اثرا للقوانين في حياته اليومية ولا يسمع صوت ممثليه الا عند الدعاية الانتخابية بات يشكك في جدوى البرلمان كمؤسسة وليس فقط في اداء افراده، وفي المقابل تتراكم دلائل العجز قوانين معلقة وجلسات معطلة ونواب بلا اثر ورئاسة تهتز مع كل ازمة.

هذا المقال لا يبحث عن بديل جاهز انما يسعى الى تفكيك منظومة من التشوهات اصابت التجربة البرلمانية في العراق منذ لحظة التأسيس حتى اليوم من خلال الاجابة عن خمسة اسئلة مركزية ترسم خارطة الطريق لفهم المأزق القائم.

لماذا لا يعمل النظام البرلماني في العراق؟

عند النظر الى اداء النظام البرلماني في العراق لا يمكن عزل التجربة عن السياق التاريخي والسياسي الذي نشأت فيه فبعد سقوط النظام السابق عام 2003 وبدفع مباشر من سلطة الاحتلال تم اعتماد النموذج البرلماني كاطار للحكم في الدستور الدائم لعام 2005 في محاولة لتجنيب البلاد الوقوع مجددا في فردانية السلطة لكن هذه الصيغة رغم نبل غايتها من حيث المبدأ فرضت على بيئة سياسية ومجتمعية لا تمتلك شروطها الموضوعية لا تعددية حزبية مستقرة ولا ثقافة تداول سلمي ناضجة ولا حتى ثقة متبادلة بين المكونات السياسية والاجتماعية.

النظام البرلماني يفترض بطبيعته وجود احزاب سياسية برامجية تتنافس على قيادة البلاد عبر الاغلبية البرلمانية ويدار من خلال حكومة مسؤولة امام البرلمان يتم اختيارها من داخل التحالفات الفائزة لكن العراق لم يشهد طوال هذه الفترة اي تجربة اغلبية حقيقية بل اعتمد على التوافق المحاصصاتي حيث توزع السلطة لا على اساس انتخابي بل وفق معادلات طائفية واثنية.

هذا يعني ان الكتلة الاكبر التي يفترض ان تشكل الحكومة لا تنتج بالمعنى البرلماني انما عبر تفاهمات ما بعد الانتخابات وغالبا خارج قبة البرلمان.

هذا الخلل البنيوي ظهر بوضوح في كل الدورات التشريعية لكنه بلغ ذروته بعد انتخابات 2021 حيث استمرت البلاد لاكثر من عام من دون رئيس جمهورية او حكومة مكتملة الصلاحيات بسبب الانقسام بين التيار الصدري والاطار التنسيقي حول تفسير الكتلة الاكبر ما عطل الحياة السياسية وكرس ما بات يعرف بالانسداد السياسي.

وقد وصف رئيس مجلس القضاء الاعلى فائق زيدان هذه الاشكالية بشكل صريح عندما قال ان النظام البرلماني لا يصلح للعراق مؤكدا انه بهذا الشكل سيعزز المحاصصة.

ولم يكن زيدان وحده من اطلق هذا التوصيف فعدد من النخب السياسية والاكاديمية طالبت بمراجعة شكل النظام حتى اقترح بعضهم الانتقال نحو النظام الرئاسي او المختلط على غرار النموذج الفرنسي باعتباره اكثر انسجاما مع طبيعة النظام الاجتماعي في العراق والذي تغلب عليه الولاءات الشخصية والمناطقية لا البرامج الوطنية.

اضافة الى ذلك فان النظام الانتخابي نفسه لم يصمم بما يخدم الاداء البرلماني اذ تغير القانون الانتخابي خمس مرات منذ 2005 وفي كل مرة كان التعديل موجها لخدمة مصالح الكتل الكبيرة او استيعاب المطالبات الشعبية كما حدث بعد احتجاجات تشرين وقد نتج عن ذلك برلمانات غير متجانسة ممزقة سياسيا وتفتقر الى كتل ذات مشروع موحد او رؤية اصلاحية متماسكة فكل كتلة تمثل مكونا طائفيا او جهة اقليمية ما جعل البرلمان ساحة امتداد لصراعات المكونات لا ساحة توحيدها.

من ناحية اخرى ضعف الفصل بين السلطات ساهم في تقويض فعالية النظام البرلماني فمجلس النواب لم يمارس سلطته الرقابية بالشكل الكامل بل غالبا ما دخل في مساومات مع السلطة التنفيذية خصوصا حين يكون الوزراء من نفس الكتل التي ينتمي اليها النواب هذا التداخل جعل من الاستجوابات والمساءلات ادوات تفاوض سياسي لا محاسبة قانونية.

ولعل احد المؤشرات الاكثر دلالة على عجز النظام البرلماني في العراق هو تكرار سيناريو العطل الدستوري بعد كل انتخابات غياب رئيس الجمهورية او تأخر تشكيل الحكومة او تعطل البرلمان بسبب خلاف على منصب رئاسته وهي ازمات لا تحدث في الانظمة البرلمانية المستقرة حيث تضمن النصوص الدستورية انتقالا سلسا للسلطة وتحسم الخلافات عبر القواعد القانونية لا الاصطفافات الطائفية.

حتى مقارنة مع دول ذات سياق مشابه كلبنان او افغانستان يلاحظ ان العراق يواجه مستوى اعلى من الاختلال بسبب غياب المرجعية السياسية المشتركة التي تنظم الخلافات ضمن اطار وطنية في العراق لا توجد جهة محايدة تضبط توازن النظام بل كل مؤسسة تدار بمنطق التحاصص بما في ذلك المحكمة الاتحادية نفسها التي دخلت مرارا في قلب الصراع السياسي بدلا من فضه.

بالمحصلة فان النظام البرلماني في العراق لم يفشل لانه برلماني بحد ذاته بل لانه وضع على ارضية غير مهيأة واستخدم باليات تتنافى مع فلسفته لقد صار النظام البرلماني العراقي اسما على ورق فيما الواقع ينتج نظاما توافقيا مغلقا يدار من خارج البرلمان ويفرغ السلطة التشريعية من معناها الفعلي.

كيف فقد البرلمان وظائفه الاساسية؟

تتاسس فكرة البرلمان في الانظمة الديمقراطية على ثلاث وظائف رئيسية التشريع والرقابة والتمثيل الشعبي وهي وظائف مترابطة يفترض ان ينهض بها مجلس النواب بوصفه الهيئة الاعلى في هرم السلطة التشريعية والمسؤول المباشر عن ضمان التوازن بين السلطات ومنع تغول السلطة التنفيذية او انزلاقها الى الاستبداد او الفساد لكن الواقع العراقي منذ 2005 وحتى اليوم يظهر مسارا متدرجا من التفكك في هذه الوظائف الى درجة يمكن معها القول ان البرلمان العراقي بات موجودا بوصفه شكلا سياسيا لا وظيفة مؤسسية فاعلة.

أولاً: التشريع الغائب او المفرغ من مضمونه

رغم تعاقب خمس دورات برلمانية منذ عام 2005 لم يتمكن مجلس النواب العراقي من اقرار قوانين حاسمة تعيد هيكلة الدولة او تفعل اقتصادها او تنظم علاقتها بالمكونات فمشروع قانون النفط والغاز ما زال معلقا منذ اكثر من خمسة عشر عاما بسبب الخلافات بين المركز والاقليم وقانون المحكمة الاتحادية العليا ظل يتنقل بين اللجان والصفقات دون اقرار ما جعل المحكمة تدار منذ سنوات دون تشكيلة دستورية مكتملة وقوانين اخرى مفصلية كقانون الخدمة المدنية ومجلس الاتحاد والعطل الرسمية والادارة المالية بقيت رهينة التوازنات السياسية الطائفية وليس الحاجات الوطنية او المصلحة العامة.

بحسب تقرير لوكالة بغداد اليوم لا يزال اكثر من مئة وعشرين مشروع قانون معلقا داخل اروقة المجلس بعضها يعود لدورات سابقة وبعضها ادرج بناء على مطالب شعبية واضحة ثم اختفى في زوايا اللجان وغالبا ما يتم احياء هذه القوانين مؤقتا لاغراض سياسية ثم تجمد مجددا بعد انتهاء الصفقة او تغير المزاج التحالفي.

وفي الحالات التي يمرر فيها القانون فانه غالبا ما ياتي خاليا من الاثر اما بسبب اخضاعه لتعديلات تفرغه من مضمونه او بسبب غياب اليات التنفيذ داخل المؤسسات المعنية مثال على ذلك قانون الدعم الطارئ للامن الغذائي والتنمية الذي اقر عام 2022 في ظروف استثنائية لتغطية النفقات العاجلة لكنه تحول لاحقا الى اداة صرف فضفاضة فتحت من خلالها منافذ انفاق غير مرقبة مما دفع البعض الى وصفه بقانون المحاصصة الطارئة.

ثانياً: رقابة بلا ادوات وابتزاز سياسي

الوظيفة الرقابية للبرلمان العراقي لا تقل اختلالا عن وظيفته التشريعية فعلى الورق يمتلك مجلس النواب صلاحيات واسعة لاستجواب الوزراء وسحب الثقة وتشكيل لجان تحقيق واقرار الحسابات الختامية للموازنات العامة لكن في الممارسة اصبحت هذه الصلاحيات ورقة ابتزاز سياسي اكثر منها ادوات محاسبة حقيقية وغالبا ما تستخدم الاستجوابات لتسوية الخلافات او مساومة الوزراء على تعيينات ومحاصصة دون ان تصل الى نهايات قانونية او نتائج فعلية.

فعدد جلسات الاستجواب الناجزة التي انتهت بسحب الثقة عن مسؤولين خلال العقدين الماضيين لا يكاد يذكر كما ان تقارير ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة التي ترفع الى البرلمان لا تفعل الا نادرا وغالبا ما يتم دفنها في لجان مختصة دون عرض على الجلسات العامة هذا الضعف في التفعيل الرقابي يعزز ثقافة الافلات من المحاسبة داخل المؤسسات الحكومية ويحول البرلمان من جهة رقابية الى جهة مجاملة او مساومة.

ولا يخفى ان هذا الاختلال يرتبط بتوزيع الكتل داخل المجلس فغالبا ما يمتنع النواب عن محاسبة الوزراء او المدراء العامين اذا كانوا من نفس احزابهم او تحالفاتهم مما يفرغ الرقابة من مضمونها ويحول البرلمان الى كيان تابع للسلطة التنفيذية بدلا من ان يكون رقيبا عليها.

ثالثاً: تمثيل شعبي غائب او مشوه

رغم ان النظام البرلماني يفترض انه اكثر الانظمة التصاقا بالمجتمع الا ان البرلمان العراقي لم يتمكن من تمثيل الشارع بفاعلية لا في التشريعات ولا في اولويات العمل فالتواصل بين النواب وجمهورهم محدود وغالبا ما يقتصر على الفترات الانتخابية بينما لا توجد قنوات مؤسساتية لاشراك المواطنين او منظمات المجتمع المدني في النقاشات التشريعية كما ان مفهوم الدائرة الانتخابية لم يترجم الى مسؤولية مباشرة تجاه الناخبين بل بقيت العلاقة قائمة على الوساطات الفردية والمطالب الخدمية الموضعية بدلا من ان تكون علاقة سياسية تحكمها محاسبة حقيقية على الاداء.

وحتى حين تندلع احتجاجات شعبية واسعة كما في تظاهرات تشرين عام 2019 كان رد الفعل البرلماني بطيئا ومترددا وافتقد الى المبادرة او الانحياز الواضح لمطالب الناس لم تكن هناك لجنة ازمة فاعلة ولا جلسات طارئة حقيقية بل تراوح الخطاب البرلماني بين التبرير والدعوة للاصلاح دون ادوات ما عزز القناعة الشعبية بان البرلمان مؤسسة منقطعة عن واقع المجتمع وتعيش في دائرة مصالحها الخاصة.

بالنتيجة لقد فقد البرلمان العراقي وظائفه الجوهرية لان بنيته الحزبية لا تنتج تشريعا وتوازناته لا تسمح برقابة وطريقة تمثيله لا تعبر عن الجمهور الحقيقي فبدل ان يكون مؤسسة تصنع السياسات العامة وتراقب الحكومة وتشرع لمصلحة المواطن اصبح البرلمان كيانا تفاعليا مع النخب الحاكمة يكرس ما هو قائم بدل ان يتجاوزه وهذا الفراغ في الوظيفة هو احد ابرز مظاهر فشل النظام البرلماني العراقي لا من حيث الشكل بل من حيث الجوهر.

من هم النواب ومن يمثلون؟

اذا كانت بنية النظام البرلماني في العراق تعاني من عطب مؤسسي فان احد اعمق مظاهر هذا الخلل يتمثل في نوعية الممثلين انفسهم فالاشخاص الذين يشغلون مقاعد مجلس النواب لا ينتجون غالبا عبر مسارات ديمقراطية ناضجة او كفاءة تشريعية او تراكم سياسي حقيقي بل ياتي اغلبهم من قنوات تعكس بنية النظام نفسه الولاء الحزبي النفوذ العشائري التمويل الانتخابي او التفاهمات الفئوية المغلقة وهذا الواقع جعل من البرلمان ساحة تمثيل لمراكز القوة اكثر من كونه تمثيلا للمجتمع.

غالبية النواب العراقيين لا يمتلكون خلفيات سياسية او قانونية تؤهلهم للعمل النيابي بالمعايير المهنية المتعارف عليها فعدد غير قليل منهم يدخل المجلس دون اي تجربة حزبية او تشريعية سابقة وبعضهم ياتي من خارج الحقل العام كليا شيوخ عشائر رجال اعمال وجهاء محليين مرشحون مدعومون من فصائل او كيانات خارج الدولة وحتى شخصيات اعلامية او اجتماعية برزت في الفضاء الرقمي.

هذا التنوع الشكلي لا يترجم الى فاعلية حقيقية لان ما يجمع هؤلاء ليس الانتماء الى مشروع سياسي بل السعي نحو النفوذ والمصالح ولهذا السبب يغيب التمايز بين نواب الاغلبية والمعارضة ولا تظهر كتل برلمانية تدافع عن سياسات اقتصادية او اجتماعية بل فقط تكتلات تمثل مصالح موزعة بحسب التمويل او الانتماء الفئوي.

يفترض ان الاحزاب السياسية هي المصفاة التي تنتج المرشحين وتنتقي الاجدر لكن في العراق تتحول هذه المصفاة الى بوابة عبور لمن يمتلك المال او الولاء في معظم الكتل لا توجد انتخابات داخلية لاختيار المرشحين ولا اختبارات للكفاءة او النزاهة بل تباع مواقع الترشيح او توزع على اساس المحسوبية والقرابة السياسية.

حتى نظام الكوتا النسوية الذي يفترض ان يضمن تمثيلا عادلا للمراة غالبا ما يستخدم لتحريك اصوات انتخابية مضمونة ضمن القائمة دون تمكين فعلي للنساء داخل قبة البرلمان او منحهن قيادة اللجان المؤثرة وينسحب ذلك على تمثيل الشباب حيث يتم استبعاد الوجوه الشابة المستقلة لصالح الشخصيات التقليدية التي تضمن مصالح رؤساء الكتل.

تحول الموقع النيابي في العراق الى بوابة للثراء السريع ففي غضون اربع سنوات فقط يتمكن عدد من النواب من بناء ثروات ضخمة لا تتناسب مع رواتبهم ومخصصاتهم الرسمية ويتقاضى النائب العراقي راتبا يقدر بنحو عشرة ملايين دينار شهريا اضافة الى مخصصات سفر وسكن وحمايات وتامين صحي لكن ذلك لا يفسر الطفرة في الممتلكات والعقارات التي تظهر في نهاية الدورة.

تقارير ديوان الرقابة المالية ورصد هيئة النزاهة تكشف عن تضخم في الذمم المالية لعدد من النواب دون تقديم مصادر دخل واضحة ولا تفعل القوانين الخاصة بكشف الذمة المالية او من اين لك هذا ما ينتج ثقافة سياسية قائمة على الافلات من المحاسبة بل ويفتح الباب امام استغلال المنصب لتمرير صفقات او تسهيل عقود او التدخل في التعيينات داخل الوزارات والمؤسسات الحكومية.

في السياق العراقي لا تقاس كفاءة النائب بما يقدمه من قوانين او مداخلات بل بما يستطيع تقديمه من خدمات فردية للناخبين في منطقته هذه الثقافة التي ترسخت بعد عام 2003 دفعت الغالبية من النواب للتحول الى وسطاء تعيين او جهات متابعة لمعاملات محلية ما يفرغ المنصب النيابي من وظيفته السياسية.

تتفاخر بعض الحملات الانتخابية بعدد التعيينات التي وفرها المرشح او بعدد الشوارع التي عبدت بواسطته او المعاملات التي انجزها بدلا من طرح برامج واضحة تخص التشريع والرقابة وهكذا يتحول البرلمان الى ما يشبه بلدية كبرى او مكتب خدمات لا ينتج سياسات وطنية بل يعيد انتاج ازمة الزبائنية وتفتيت الدولة.

ربما الاخطر من كل ما سبق هو ان اغلب النواب الذين يتهمون بالفشل او التغيب او التربح يعاد انتخابهم مرة اخرى بسبب طبيعة النظام الانتخابي غير العادل واعتماد الكتل على نفس القواعد الانتخابية وغياب اي ادوات مجتمعية فعالة لمحاسبة ممثلي الشعب.

وبذلك فاننا امام حلقة مغلقة كتل تنتج نوابا لا يمثلون مشروعا وناخبون لا يملكون ادوات للمحاسبة ونظام انتخابي يعيد تدوير الاسماء ذاتها تحت شعارات مختلفة فيما تستمر العملية السياسية بفقدان عمقها التمثيلي لصالح نخبة تنغلق اكثر فاكثر على ذاتها.

من يدير البرلمان فعلًا بين الداخل المضطرب والخارج المتداخل؟

من ابرز الاشكالات التي تحيط بتجربة البرلمان العراقي منذ تأسيسه هي العلاقة المعقدة بين الفاعل الداخلي والضغوط الخارجية فالعملية البرلمانية في العراق لم تتطور داخل بيئة مستقرة ذات سيادة مكتملة بل نشأت وسط تحولات كبرى اقليمية ودولية وسرعان ما اصبحت قبة البرلمان امتدادا لصراعات النفوذ بقدر ما هي ساحة تمثيل وطني لكن التقييم الموضوعي يتطلب عدم اختزال هذا الواقع في ثنائية القرار الوطني مقابل القرار المستورد بل قراءته بوصفه ناتجا عن تفاعل مستمر بين ازمة داخلية بنيوية وهيكل سياسي هش وتأثيرات خارجية تجد منفذها عبر التوازنات الطائفية والحزبية.

في الداخل يواجه البرلمان تحديا كبيرا في الحفاظ على تماسكه المؤسسي خصوصا بسبب الانقسامات الحزبية والمناطقية التي تضعف مركزية القرار داخله على سبيل المثال منصب رئاسة مجلس النواب وهو الارفـع تمثيلا للمكون السني شهد خلال جميع الدورات البرلمانية تقريبا صراعات محتدمة بين الزعامات السياسية السنية ما انعكس بشكل مباشر على استقرار اداء المجلس ففي كل مرة ينتخب فيها رئيس للبرلمان لا يمضي وقت طويل قبل ان تثار خلافات حول شرعيته او تطرح محاولات لسحب الثقة عنه احيانا من داخل كتلته نفسها وقد بلغت هذه الانقسامات ذروتها في الدورة الحالية حين تمت اقالة رئيس المجلس محمد الحلبوسي وظل المنصب شاغرا لاشهر بسبب غياب توافق داخل المكون السني حول البديل.

هذا الضعف الداخلي في انتاج قيادة مستقرة سمح احيانا لقوى سياسية اخرى سواء داخلية او ذات امتدادات خارجية بالتأثير على قرارات رئاسة المجلس او توجيه جدول الاعمال لكن من جهة اخرى من غير الدقيق ارجاع ذلك الى مؤامرات خارجية فقط لان الواقع البرلماني يظهر ان بعض هذه التأثيرات تمر عبر قنوات داخلية شرعية كالتحالفات السياسية ونتائج الانتخابات وترتيبات التوافق بين المكونات وهي آليات معمول بها في انظمة برلمانية متعددة لكنها في العراق تستثمر في بيئة لم تصل بعد الى توازن مؤسسي راسخ.

اما على مستوى التأثير الخارجي فالامر لا يخلو من ضغوط واضحة تمارسها اطراف اقليمية ودولية على الكتل السياسية خاصة في لحظات تشكيل الحكومات او تمرير التشريعات السيادية لكن هذه التدخلات ليست حكرا على دولة بعينها ولا تمارس دوما بطريقة مباشرة بل غالبا ما تمر عبر علاقات تمويل او دعم سياسي او تنسيق انتخابي وقد اقر مسؤولون عراقيون من مختلف المكونات في تصريحات علنية بوجود مثل هذه التأثيرات لكنهم يختلفون في تفسير حجمها وحدودها وفيما اذا كانت تعكس تبعية فعلية ام مجرد توازن نفوذ في بيئة هشة.

حادثة تمرير قانون اعتبار عيد الغدير عطلة رسمية في ايار الفين واربعة وعشرين اثناء شغور منصب رئيس المجلس تعد مثالا دالا على تداخل هذه العوامل فقد تولى النائب الاول محسن المندلاوي رئاسة الجلسة حينها وهو محسوب سياسيا على الاطار التنسيقي وتم تمرير القانون رغم اعتراضات كتل اخرى ابرزها قوى سنية ومدنية اعتبرت الخطوة ترسيخا لطابع مذهبي في التشريع الرسمي وقد فسرت هذه الحادثة من قبل البعض بوصفها انعكاسا لخلل التوازن داخل البرلمان بينما اعتبرها اخرون نتيجة طبيعية لفراغ القيادة ومحدودية التوافق بين الكتل.

ما بين التأويلات السياسية والواقع الاجرائي تبقى مثل هذه الحوادث مؤشرا على هشاشة البيئة المؤسسية التي يدار من خلالها البرلمان فالقرارات المثيرة للجدل لا تمر دوما بسبب سيطرة خارجية او خيانة داخلية بل احيانا تمر نتيجة غياب اجراءات توازن او شلل الكتل او عدم اكتمال النصاب او اختلاف تفسير القواعد الدستورية.

خلاصة القول ان البرلمان العراقي يدار في بيئة معقدة يتقاطع فيها الضعف المؤسسي الداخلي مع التأثير الخارجي المتعدد وليس من الانصاف اختزال هذه المعادلة في رواية واحدة او جهة واحدة بل الاجدر الاعتراف بان التجربة البرلمانية نفسها ما تزال تبحث عن مرتكز سيادي داخلي مستقر تبنى عليه السلطة وتمارس من خلاله الوظائف الرقابية والتشريعية دون تأثر مفرط بالتجاذبات الطائفية او الاقليمية وتحقيق هذا الهدف لا يتطلب فقط صد التأثيرات بل اعادة بناء الداخل من الاساس.

هل يمكن اصلاح النظام البرلماني في العراق؟

مع كل ازمة تشهدها العملية السياسية في العراق يعود الى السطح الجدل حول شكل النظام السياسي وتحديدا حول مدى صلاحية النظام البرلماني كاطار للحكم فبين من يرى في البرلمان اداة معطلة ومن يراه ضحية لبنية سياسية اكبر منه تتصاعد الدعوات لمراجعة هذا الخيار الذي اقر في دستور 2005 في ظل ظروف استثنائية بعد انهيار الدولة المركزية وتحت رعاية مباشرة من سلطة الاحتلال.

لكن مناقشة مستقبل هذا النظام لا ينبغي ان تنطلق من شعارات الرغبة في التغيير فحسب بل من تحليل واقعي للاسباب التي قادت الى فشل الاداء البرلماني وتمييز ما هو مرتبط بطبيعة النظام نفسه وما هو ناتج عن طريقة تطبيقه في بيئة غير مستقرة فهل فشل النظام لانه برلماني ام لانه نفذ ضمن نظام محاصصي غير قائم على تداول برامجي للسلطة ام ان الازمة اعمق وتتعلق بغياب ثقافة سياسية وطنية وسوء توزيع للموارد والصلاحيات.

على احد جوانب الطيف تبرز اصوات تدعو الى استبدال النظام البرلماني بنظام رئاسي او مختلط معتبرة ان شكل النظام الحالي غير قادر على انتاج حكومات مستقرة او مساءلة فعالة او قوى معارضة واضحة هؤلاء يشيرون الى تجربة السنوات الماضية حيث استمر الانسداد السياسي لاشهر طويلة بعد كل انتخابات وعطل انتخاب رئيس الجمهورية وانهار مفهوم الكتلة الاكبر وهم يرون ان النظام الرئاسي قد يوفر وضوحا في المسؤولية ويخرج القرار التنفيذي من ساحة المساومات داخل البرلمان ويقلل من تاثير الانقسام الفئوي.

في المقابل هناك مخاوف حقيقية من التحول نحو النظام الرئاسي خصوصا في ظل هشاشة مؤسسات الدولة وغياب الضمانات القضائية وضعف ثقافة المحاسبة من وجهة نظر هؤلاء فان تغيير شكل النظام السياسي من دون اصلاح القاعدة التي تقوم عليها العملية السياسية المال السياسي قانون الانتخابات اليات تشكيل التحالفات قد ينتج نسخة جديدة من الانسداد وربما يمهد لعودة مركزية السلطة بادوات اكثر استقرارا لكن على حساب التعددية والرقابة وهناك ايضا من يرى في هذا التحول تهديدا لتوازن المكونات في بلد لا تزال فيه الهويات الفرعية تلعب دورا حاسما في توزيع السلطة.

وسط هذا الانقسام تتجه بعض الاصوات الى خيار ثالث اكثر تدرجا يتمثل في اصلاح النظام البرلماني من داخله بدل تغييره بالكامل هذا الاتجاه يدعو الى تفعيل البرلمان بوصفه سلطة حقيقية لا شكلية من خلال:

  • تعديل قانون الانتخابات
  • تطوير النظام الحزبي
  • تفعيل ادوات الرقابة البرلمانية
  • اصلاح نظام الحصانة ورفع القيود عن المساءلة السياسية
  • تعزيز الشفافية داخل البرلمان

عدد من مراكز الابحاث يقترحون ايضا مقاربة تدريجية تبدا بتحييد الوظائف الخدمية عن النواب وفصل العمل النيابي عن وساطة التعيينات والتوظيفات ما يساعد على استعادة الدور التشريعي والرقابي كوظيفة اصيلة لا موازية

الا ان جميع هذه السيناريوهات سواء نحو التعديل او التغيير تصطدم بحقيقة واحدة الارادة السياسية فما لم تتوفر كتلة حرجة من القوى السياسية تدعم التغيير الجاد وتكون مستعدة لخسارة بعض الامتيازات مقابل بناء دولة فاعلة فان النظام البرلماني سيظل قائما شكليا ومعطلا وظيفيا.

المشكلة في جوهر الدولة

ليس من السهل اختزال ازمة البرلمان العراقي في بنية النظام السياسي وحدها ولا في سلوك الافراد الذين يديرونه فالمعضلة تتجاوز الشكل البرلماني لتتصل بجوهر الدولة الحديثة في العراق التي ما زالت تعاني من توازنات هشة وولاءات متقاطعة وبنى حزبية لم تتطور الى مؤسسات تمثيلية حقيقية لقد تحول البرلمان في كثير من الاحيان من سلطة رقابية وتشريعية الى ساحة تفاوض على المناصب او اداة لتحقيق مكاسب فئوية ضيقة في ظل غياب فعلي للمساءلة الشعبية وضمور دور المجتمع المدني واستمرار الخلط بين النيابة والخدمة والتشريع والمصالح

وبين خيار تغيير النظام السياسي برمته وخيار اصلاحه من الداخل يظل جوهر التحدي قائما كيف يمكن انتاج تمثيل سياسي حقيقي في بلد لم تستكمل فيه بعد شروط الدولة الحديثة؟ وهل يمكن للبرلمان ان يستعيد دوره لا بكونه مجرد انعكاس للتوازنات بل كقوة تصوغها وتعيد تنظيمها وفق مصلحة عامة قابلة للقياس والمساءلة؟

ما يحتاجه العراق ليس مجرد اجابة فنية عن صلاحية النظام البرلماني بل مشروع سياسي حقيقي يعيد تعريف التمثيل ويعيد بناء العلاقة بين المواطن والدولة ويؤسس لمسار طويل من التراكم الاصلاحي بعيدا عن المسكنات او التحولات الفوقية غير الناضجة فالاصلاح الحقيقي لا يبدا من تغيير القبة التي يجتمع تحتها النواب بل من اعادة تعريف من يمثل من ولماذا وكيف.

 

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!