بقلم: صادق الازرقي
تتنوع إعلانات قروض المصارف في العراق وتأخذ أشكالا متعددة، منها السلف الاعتيادية للموظفين والمتقاعدين، وقروض الإسكان، وقروض المشاريع الصغيرة، وغيرها؛ ولكن فيما يتعلق بالناس الاعتياديين، فانه نادرا ما تسهم تلك القروض في تطوير حياتهم والارتقاء بمستوى معيشتهم، وظلت معدلات الفقر في البلد مرتفعة، برغم الحديث المتكاثر في وسائل الإعلام عن تلك القروض.. فلماذا لا تلبي تلك القروض حاجات الناس وتبقى قاصرة عن الارتقاء بحياتهم؟
تضع المصارف العراقية عادة شروطا صارمة ومعقدة للحصول على القروض، مما يجعلها صعبة المنال على شريحة واسعة من السكان، لاسيما ذوي الدخل المحدود أو الذين يفتقرون إلى الضمانات الكافية. تتضمن هذه الشروط غالبا، ارتفاع أسعار الفائدة، مما يزيد العبء المالي على المقترضين ويقلل من قدرتهم على سداد القروض وتحقيق فائدة اقتصادية حقيقية منها.
و تطلب البنوك ضمانات يصعب على كثيرين توفيرها، مثل الكفلاء من ذوي الدخل الثابت او موظفين اثنين براتبين أو حجز الرواتب، مما يقصي كثيرين من دائرة المستفيدين؛ كما ان طول الإجراءات وتعقيدها يؤدي إلى تأخير صرف القروض، مما يفقدها فعاليتها في تلبية الاحتياجات الملحة أو استغلال الفرص الاقتصادية السريعة.
وتركز معظم القروض المتاحة في العراق على الاستهلاك أو الاحتياجات الشخصية الفورية (مثل سلف الموظفين والمتقاعدين)، فيما تفتقر إلى رؤية تنموية واضحة تهدف إلى تمكين السكان اقتصاديا، فقروض المشاريع الصغيرة، على سبيل المثال، قد تكون متواجدة اسميا، ولا تقدم المصارف أو الجهات الحكومية المرتبطة بالقروض الدعم المطلوب لأصحاب المشاريع لضمان نجاحها واستدامتها.
ونادرا ما يجري التركيز على دراسات جدوى حقيقية تضمن أن القرض يستثمر في مشروع ذي عائد اقتصادي مستدام للمقترض، ولا تتواجد آليات فعالة لربط المشاريع الصغيرة بالأسواق المحلية أو العالمية لضمان تسويق منتجاتها وخدماتها، ويوجد ضعف في آليات الرقابة والتقويم لمدى فعالية القروض في تحقيق أهدافها التنموية؛ فلا يجري تقويم أثر هذه القروض على حياة المقترضين ومستوى معيشتهم بشكل دوري ومنتظم ومتابعة ذلك، ولا تجري التعديلات المطلوبة على شروط وأنواع القروض لتناسب الاحتياجات الفعلية للمقترض.
يعاني الاقتصاد العراقي من تضخم وارتفاع في الأسعار وعدم استقرار في سعر الصرف، مما يقلل من القوة الشرائية للقروض، فالمبلغ الذي يحصل عليه المقترض اليوم قد لا يكون كافيا لتلبية احتياجاته أو إطلاق مشروعه بسبب ارتفاع التكاليف لاحقا؛ هذا يقلل من الفائدة الحقيقية للقرض ويجعل المقترض يعاني من أعباء السداد من دون تحقيق الفائدة المرجوة.
وتنتشر في العراق ثقافة الاقتراض لأغراض استهلاكية أكثر من الاقتراض لأغراض استثمارية أو تنموية؛ يرجع ذلك جزئيا إلى الاحتياجات المعيشية الملحة، فيلجأ كثيرون إلى القروض لتغطية نفقات المعيشة الأساسية أو الطوارئ الصحية والتعليمية، و يفتقر الكثيرون إلى الوعي الكافي بشأن كيفية استثمار القروض بشكل فعال لتحقيق عوائد مستدامة.
وفضلا عن ذلك، فان الظروف الاقتصادية والسياسية غير المستقرة تجعل الاستثمار محفوفا بالمخاطر، مما يدفع الأفراد نحو الاقتراض الاستهلاكي الفوري، بدلا من "المغامرة" بالمشاريع.
وكي تكون القروض المصرفية أداة فعالة في الارتقاء بمستوى معيشة السكان في العراق، يجب إعادة النظر في آليات الإقراض وشروطه، وتوجيهها نحو أهداف تنموية واضحة، مع توفير الدعم الفني والمالي المطلوب للمقترضين.
في كثير من الدول حتى الفقيرة، يسهم الإقراض في تنمية حياة السكان، فالإقراض متناهي الصغر من بنك جرامين في (بنغلاديش) الذي أسسه البروفيسور محمد يونس الحائز على جائزة نوبل للسلام، واحدة من أبرز النماذج الناجحة في الإقراض متناهي الصغر.
يقدم البنك قروضا صغيرة جدا (غالبا ما تكون من دون ضمانات تقليدية) للنساء الفقيرات في المناطق الريفية، واللواتي لا تخدمهن المصارف التقليدية، و يجري تنظيم المقترضات في مجموعات صغيرة (عادة 5 أفراد)، حيث تكون المجموعة مسؤولة بشكل جماعي عن سداد القروض، هذا يخلق ضغطا اجتماعيا إيجابيا ويقلل من مخاطر التخلف عن السداد ويدفعهن الى استغلال القروض بالأعمال.
و لا يقتصر الأمر على التمويل، بل يوفر البنك التدريب على إدارة الأعمال الأساسية، والتسويق، وحتى مهارات الحياة، مما يعزز فرص نجاح المشاريع، و يتميز القرض بمرونة في جداول السداد تتناسب مع طبيعة الأنشطة الاقتصادية الصغيرة التي يمولها.
ومكنت هذه القروض الملايين من النساء من بدء مشاريع صغيرة مدرة للدخل (مثل تربية الدواجن، الحرف اليدوية، تجارة التجزئة الصغيرة)، مما اسهم في تحسين مستوى معيشة أسرهن بشكل ملحوظ، و عززت القروض من دور المرأة ومكانتها في داخل الأسرة والمجتمع، ومنحتها استقلالية مالية وقدرة على اتخاذ القرار، و أدت إلى تحسين مؤشرات التعليم والصحة والتغذية للأسر المستفيدة، اذ تمكنت الأمهات من إرسال أطفالهن إلى المدارس وتوفير رعاية صحية أفضل؛ واسهمت المشاريع الصغيرة في بنغلاديش بتنشيط الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل إضافية.
وفي الولايات المتحدة فان قروض المشاريع الصغيرة والمتوسطة، تدعم إدارة الأعمال الصغيرة والشركات الصغيرة والمتوسطة، بوساطة برامج قروض متنوعة، ولا يجري الاقراض المباشر في معظم الحالات، بل تضمن القروض المقدمة من البنوك التجارية المشاريع الصغيرة؛ هذا يقلل من مخاطر البنوك ويشجع على الإقراض للشركات التي قد لا تستوفي شروط الإقراض التقليدية.
و تقدم مصارف الاقراض مجموعة واسعة من برامج القروض المصممة لأغراض مختلفة (مثل قروض التمويل العام، وقروض الأصول الثابتة، وقروض متناهية الصغر للمبالغ الصغيرة)، و توفر أيضا موارد وخدمات استشارية مجانية أو منخفضة التكلفة لرواد الأعمال، مثل المساعدة في إعداد خطط العمل، التسويق، والإدارة المالية.
وبذلك تعد المشاريع الصغيرة والمتوسطة هي المحرك الرئيس لنمو الوظائف في الاقتصاد الأمريكي، وتسهم هذه القروض في التوسع وخلق مزيد من الوظائف، وتمكن الشركات الناشئة والصغيرة من الحصول على التمويل المطلوب للابتكار والتوسع، مما يدعم النمو الاقتصادي الشامل، و توفر فرصة للأفراد لتحويل أفكارهم إلى مشاريع ناجحة، مما يعزز روح المبادرة وريادة الأعمال.
وتعد سنغافورة مثالا بارزا على كيفية اسهام برامج الإسكان الحكومية المدعومة بالقروض في توفير السكن اللائق لمعظم السكان، اذ تقدم الحكومة عن طريق مجلس الإسكان والتنمية القروض التي تؤدي دورا محوريا في بناء وتوفير غالبية الوحدات السكنية في سنغافورة.
فتقدم الحكومة قروض إسكان ميسرة للناس لشراء شقق، بأسعار فائدة أقل بكثير من القروض التجارية، ومراحل سداد طويلة، ويمكن للسكان استغلال بعض الاموال المتراكمة في صندوق الادخار المركزي لدفع الدفعة الأولى وأقساط القروض، مما يسهل عملية الشراء، فيما تقدم الحكومة منحا وإعانات إضافية للأسر ذات الدخل المنخفض لمساعدتها على تحمل تكاليف السكن.
عند مقارنة هذه التجارب الناجحة بالوضع في العراق، تبرز الفروقات، ففيما تركز التجارب الناجحة على توفير حزمة متكاملة من التمويل، التدريب، الدعم الفني، والمشورة، فإن القروض في العراق غالبا ما تكون مجرد عملية مالية بحتة من دون دعم كاف لضمان نجاح المشروع أو تحقيق الأثر التنموي.
والشروط الصارمة وارتفاع أسعار الفائدة في العراق تقف عائقا أمام الفئات الأكثر حاجة، بينما في النماذج الناجحة يجري تصميم القروض لتكون ميسرة ومتاحة للفئات المستهدفة. و تفتقر القروض في العراق إلى رؤية تنموية شاملة تستهدف قطاعات معينة أو شرائح سكانية محددة لتعظيم الأثر الاقتصادي والاجتماعي؛ وان عدم الاستقرار الاقتصادي والتضخم في العراق يقلل من قيمة القروض ويزيد من صعوبة السداد، فيما تعمل الدول الناجحة على توفير بيئة اقتصادية مستقرة تدعم نجاح المقترضين.
والافتقار إلى آليات الرقابة والتقويم الفعالة في العراق يمنع تحديد نقاط الضعف وتحسين برامج الإقراض، في حين تعتمد التجارب الناجحة على التقويم المستمر لتعديل السياسات وتحقيق أفضل النتائج.
لتحقيق أثر إيجابي مشابه في العراق، يتطلب الأمر تبني نهج شامل يتجاوز مجرد توفير السيولة المالية، ويشمل بناء القدرات، وتوفير الدعم الفني، وتصميم برامج إقراض تتناسب مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية للفئات المستهدفة، مع التركيز على الاستدامة والأثر التنموي طويل الأجل.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!