ابحث في الموقع

صوت القضية لا صدى الشعارات

صوت القضية لا صدى الشعارات
صوت القضية لا صدى الشعارات

بقلم: د. خالد قنديل

سقطت ورقة التوت الأخيرة عن وجوه المنبوذين والمرفوضين والهاربين في المنافي البعيدة، عن أولئك الذين جعلوا من الخيانة وطنًا ومن التشرد عقيدة ومن الزيف راية يحملونها في الظلام، سقط القناع وانكشفت الوجوه المستترة خلف ستائر الدين الممزقة، خرجت أنيابهم إلى العلن وتقيأت أفواههم أطماعهم البائسة كما لو أن التاريخ نفسه لفظ أسماءهم من صفحاته المنيرة لم تكن مفاجأة أن تسقط تلك الأقنعة فقد صنعت من وهم وسواد منذ البدايات؛ حين خانوا الرفاق في العشرينيات وتآمروا على الحركات الوطنية المصرية التي وقفت في وجه الاستعمار، تقمصوا عباءة الإيمان ليفتتوا الصفوف ويغرسوا خناجرهم في ظهور المقاومين، هم ذاتهم الذين احتضنهم الكيان المحتل في الثمانينيات وأطلق أذرعهم في الجسد الفلسطيني ليمزقوا وحدة الأرض ويزرعوا الانقسام، كما يزرع اللص لغمًا في قلب الليل، هم من استغلوا حناجر الغاضبين حين نادت بالحرية فحولوها إلى خنادق للفتنة، وأحرقوا بها ربيعًا كان يمكن أن يكون خلاصًا؛ زحفوا كالدخان على خرائط الأمل محملين برسائل الخراب، وسعوا حثيثًا إلى محو هوية الأوطان حتى لو اضطروا للتحالف مع الشيطان، لم يكن هدفهم دينًا ولا عدالة، بل خراب يرسمونه باسم السماء، وكأنهم أوصياء على العتمة أبناء اللاهوية، وجه التاريخ المعتم، مرآة الخيانة الصافية، كل ما فيهم نقيض، وكل ما فيهم خيانة، سافر الأرض تعرفهم تميز خطاهم في التراب وتلفظ أسماءهم مع كل صباح جديد، فالزبد يعلو حينًا لكنه لا يلبث أن يزول وأما الوطن فباقٍ يعرف من صانه ومن باعه ومن حاول أن يطفئ نوره بريح مأجورة، سقطت ورقة التوت الأخيرة ولم يعد لديهم ما يخفون به عارهم الممتد من أوائل القرن حتى لحظتنا الراهنة.

تظهر الجماعة الإرهابية المنبوذة من جديد، لا كمن خرج من ظلمة النسيان، بل كمن لم يغب لحظة عن مشهد الخراب، تعود بوجهها الكالح الذي لم تستطع الأقنعة الرقيقة أن تخفي قبحه، إذ لم يكن القناع يومًا إلا غلالة من كذب شفّاف، سقط بسهولة أمام وهج الحقيقة. 

وها هي الآن تعلن عن حقدها الدفين تجاه مصر، وتكشف نهمها القديم لأرضها ومكانتها، كأنها ما شُفيت يومًا من داء الطمع ولا ارتوت من مستنقع الخيانة. 

وفيما ينظر العالم بدهشة إلى ما يجري، تتجلى مصر وحدها كصاحبة البصيرة، الدولة الوحيدة التي فهمت مبكرًا خيوط اللعبة القذرة التي حيكت في الظلام، والتي تآمر فيها الاحتلال مع داعميه الغربيين على بوابة الشرق: فلسطين، طمعًا في بوابة أكبر، في الجائزة الكبرى، في مصر نفسها، في كنوز المنطقة وثرواتها، في قلبها النابض الذي أرادوا له أن ينكسر ليكتمل مشروعهم الاستعماري الجديد. 

لكن مصر لم تنكسر، بل وقفت، كما كانت دائمًا، على مفترق المصير، فرفضت التهجير، وصرخت في وجه الصفقة المسمومة، وحملت فلسطين كما تحمِل الأمُّ ابنها المجروح، تتحرك مصر على مستوياتها كلها، من الشعب الذي يرفض الظلم بالغريزة، إلى القيادة التي تضع القضية في قلب السيادة، إلى الدبلوماسية التي تخوض المعارك الصامتة بأصوات العدل والحق، لتثبت أن الأرض لمن وُلد عليها، لا لمن أراد اقتلاع شعبٍ كامل كي يزرع في موضعه غصنًا من وهم.

ذلك الوعي، وذلك الثبات، دفع الجماعة الإرهابية إلى ذروة جنونها. لم يبقَ لديها سوى اللغو، سوى الطبول الفارغة التي تحاول أن تثير الغبار حول الصوت المصري الحقيقي في هذا الأتون المستعر، حتى أحد شيوخهم، الذي اختار أن ينتمي للكيان لا للقدس، ذهب يطلب الإذن من وزير الأمن الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، ليقود تظاهرة أمام السفارة المصرية، مطالبًا – بوقاحة لا تستغرب – برفع "الحصار المصري" عن غزة، كما زعم، وقف يصرخ ويهذي، تحيطه أعلام الاحتلال، يرفع لافتات كاذبة تحاول أن تصوّر مصر شريكًا في تجويع أهل غزة، بينما هو نفسه ممنوع بحكم قضائي من دخول الأقصى، من مجرد الصلاة فيه، لم يتظاهر يومًا من أجل ذلك، لكنه الآن يتظاهر "بكامل صحته" ضد التجويع المزعوم، ولم يذرف دمعة واحدة على تهويد القدس، ولا على اقتحام الأقصى. 

تلك هي المفارقة العارية، التي تُضحك الحجر وتبكي العقل؛ شيخ يزحف بإذن محتل، ليهتف ضد مصر، لا حبًا في غزة، بل نكاية في دولة أفشلت مشروعهم الكبير، وكشفت تحالفاتهم السرية، وأسقطت قناعهم المهترئ. وما كانوا إلا أدوات في يد من ظنوا أنهم أرباب هذا العالم. 

أما مصر، فباقية بما تحمل من حقٍ، ومن دورٍ، ومن ذاكرةٍ لا تمحى، تحارب على جبهات الوعي وتقاوم على أرض السياسة، وتكتب للتاريخ سطوره الجديدة، دون أن تتورط في أوهام الخونة ولا أصواتهم النشاز.

ثم جاء المشهد كما لم يأتِ مشهد من قبل، مشهد لا يحتمل تأويلاً ولا يحتاج إلى تفسير، حين خرج أحد صانعي الظلام من تحت عباءة جماعة لا تعرف وطنًا، لا تعرف شرفًا، لا تعرف إلا الخراب. خرج بصوته وصورته، لا يخجل من عور الحقيقة، ليقول إن احتلال الكيان الصهيوني لسيناء أمرٌ محمود، وإن اجتياح مصر ضرورة تمر عبر بوابة ما يسميه الثورة، كأن الأرض ليست عرضًا، وكأن الوطن سلعة في سوق الخيانة، تباع لمن يدفع أكثر في مزاد العار المفتوح على كل الجهات. قالها ببساطة من أعمته الخيانة عن رؤية الدم، وكأن السنوات التي نزفتها مصر لم تكن، وكأن أرواح أبنائها على الحدود مجرد أرقام في دفتر النسيان، وكأن راية الوطن يمكن أن تُنكس برغبة عميل يلهث وراء وهم سلطوي مهترئ. لم يسلكوا يومًا طريقًا يشبه طرق الأحرار، بل اختاروا الممرات الخلفية للحقيقة، تسللوا بين الشروخ، وراهنوا على الخراب، يسيرون في دروب وضيعة لا تمر على الكنيست، لا تمر على عواصم الموت ولا على مموليهم، لم يرفعوا صوتًا ضد إبادة، لم يهاجموا حليفًا مجرمًا، لم يطالبوا بوقف سلاح أو حصار، بل وجهوا لعناتهم نحو القاهرة، نحو من بقي واقفًا حين سقطت كل العواصم في وحل التخاذل. 

كانت أبواقهم ولا تزال، تردد الكذبة حتى تصدقها، تسوّق تراهاتهم كأنها وعي، وتنشر وقاحتهم كأنها صحوة، أوراق مبللة بالعار تطفو على سطح زمنٍ مرتبك، تحاول أن تغطي النور بالدخان. 

لكننا نعرف، والعالم يعرف، وما نكرره ليس مزايدة بل تثبيت للحق، أن مصر لم تغب عن ساحة النضال يومًا، لم تساوم، لم تبع، لم ترفع راية بيضاء فوق أسوار القضية، بل بقيت السند حين تنكر السند، وبقيت الجدار حين انهار الجدار.

هي التي احتضنت شتات الفلسطينيين، لا لتكرّس الفرقة بل لتجمع، لا لتنسى بل لتثبت، لا لتناور بل لتبني، دخلت ساحة التفاوض لا لتصافح أيدي الذبح، بل لتنتزع اعترافًا بحق مسلوب، نادت بصوتها في عتمة المؤتمرات أن أوقفوا هذه الحرب، أوقفوا هذا النزيف، وأعلنت في كل ميدان أن فلسطين ليست بندًا قابلًا للتعديل ولا حكاية تصلح للنسيان. 

تحركت مصر بعقلٍ صلب وإرادة تعرف طريقها، فانتزعت اعتراف العالم بدولة، وانتزعت الاحترام من دول لم تعتد الإنصات إلا للأقوياء، أدخلت المساعدات حين أغلقت الأبواب، وتحملت الضغط حين لم يتحمل غيرها سوى الصمت، وقفت وحدها لتكمل الدور الذي تنكرت له دول وشعوب ومنابر، لم تفكر يومًا في انسحاب ولا في تنازل، بل سعت وما زالت تسعى لإعادة إعمار ما تهدّم، ليس صدقة بل استحقاق، ليس منّة بل واجب، بإيمان لا يتزعزع أن غزة ستعود لأهلها، وأن هذا القطاع الجريح لن يبقى أسيرًا، وأن من خانه لن يكون سيدًا عليه أبدًا.

ومهما علا صوت الخيانة، ومهما نفخوا في أبواق الفتنة، ستبقى الحقيقة واضحة كالشمس، أن من يشتم القاهرة اليوم هو من صافح المحتل أمس، وأن من يهاجم مصر هو ذات الذي سكت عن الدم في الأقصى، وأن من يتحدث عن الحصار لم يتظاهر يومًا ضد الحصار الحقيقي، لأن صوته ليس للحق، بل للثمن. 

وفي النهاية، تبقى مصر، لا تهتز أمام العاصفة، لا تضعف أمام الأنين، تعرف من تكون، وتعرف طريقها، وتكتب في كتاب التاريخ سطورًا من نار ونور، لا تمحوها أبواق مأجورة، ولا يعيد صياغتها حالم بالخيانة. 

لا يستطيع أحد كائنًا من كان أن يزايد على دور مصر، لا الأقزام في الأقبية، ولا الحالمون في سراديب الخيانة، فدور مصر لم يكن شعارًا عابرًا ولا صدى صوت في ممرات السياسة، بل قدرٌ صنعه التاريخ وشهدت عليه الجغرافيا، هو دور الأقوى حين ينهار الضعفاء، والأبقى حين تتبدل الولاءات، والأنصح حين تعمى البصائر، دورٌ نابع من إيمان لا يتغير، راسخ كأهراماتها، بأن الحق الفلسطيني ليس وجهة نظر، بل هو حق مكتمل لا يساوم، أن فلسطين ليست ورقة تفاوض، بل وطن كامل يجب أن يُعاد إلى أهله، وأن القدس ليست ضاحية يمكن التنازل عنها، بل عاصمة لدولة تنتظر ميلادها.

وإذا كان الحانقون، أولئك الأغبياء الذين يضعون الخيانة على أكتافهم كوسام، ومن والاهم أو دفع لهم أو آمن بهذيانهم، لا يفقهون إلا لغة المؤامرة، ولا يطمحون سوى إلى حلم واهٍ يتعفن في ضمائر ميتة لا تعرف الحياة، فإن مصر في المقابل، تعرف طريقها كما تعرف اسمها، وستبقى على العهد، دعمها غير مشروط، ثابت لا تهزه عواصف الابتزاز، ممتد حتى تنكسر القيود عن القدس، وحتى يتحرر الأقصى من الطغيان. 

وستستمر الجهود، دبلوماسية لا تعرف النوم، تتحرك بثبات، تدق الأبواب وتصرخ في وجوه الصامتين، وستتواصل المساعدات التي تعبر الحدود كأنها رسائل حب ومقاومة، وستبقى محاولات رأب الصدع بين الفصائل، وإعادة الوحدة إلى البيت الفلسطيني، لا لأن مصر تطلب شكرًا، بل لأنها تعرف أن الانقسام خنجر في خاصرة الحق. ومع كل لحظة اقتلاع، مع كل شبح تهجير، مع كل صرخة أم تهدم بيتها فوق رأسها، تقف مصر هناك، لا تنكسر، لا تساوم، تجبر العالم، بما فيهم داعمو الكيان ومعاونوه والذين بعثوه إلى الشرق كأداة لا كدولة، أن يصمتوا أمام الموقف المصري، أن ينحنوا ولو سرًا أمام هذه الكلمة الحرة التي لا تُشترى، أمام هذه السيادة التي لا تُخترق، أمام هذه البلاد التي كلما أحاط بها الخطر، تحوّلت إلى جدار لا يُهد.

ولا عزاء للواهمين، ولا راحة للمتربصين، ولا وطن للخونة، أما مصر، فهي الوطن حين يفقد الوطن معناه، وهي الحصن حين تسقط الأسوار، وهي الصوت حين يُراد لنا أن نصمت.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!