ابحث في الموقع

فوضى المعلومة في العراق: من يحمي الحقيقة في زمن الشائعات؟

فوضى المعلومة في العراق: من يحمي الحقيقة في زمن الشائعات؟
فوضى المعلومة في العراق: من يحمي الحقيقة في زمن الشائعات؟

بقلم: عامر عبد رسن

تآكل الثقة في المؤسسات التقليدية: لم يكن الجدل الذي صاحب انتحار الشابة بان حدثًا عابرًا، بل كشف عن خلل عميق في منظومة الثقة داخل العراق. فالقضاء قال كلمته الفصل، لكن الفضاء الرقمي ظلّ مشتعلاً، حيث تحوّل الحدث المأساوي إلى مزاد من الاتهامات والمهاترات، تتلاشى أمامه حرمة الفقيدة وألم ذويها.

هذا المشهد يعكس ما تعيشه مجتمعاتنا من تراجع في الثقة بالمؤسسات التقليدية – القضاء، الإعلام الرسمي، وحتى التعليم الجامعي – مقابل صعود مؤثرين وأصوات فردية على منصات التواصل الاجتماعي.

كما هو الحال في الغرب، باتت شرائح واسعة من العراقيين تستمد أخبارها ومواقفها من “فيسبوك”، “تيك توك”، و”يوتيوب” أكثر مما تفعل من الصحف أو الفضائيات.

منصات التواصل: سرعة الانتشار لا مصداقية الخبر : المعضلة أن هذه المنصات تكافئ سرعة النشر لا دقته. بضغطة زر يمكن أن تتحول مأساة إنسانية إلى مادة للترند، أو تُضخَّم نظرية مؤامرة بلا أساس، أو يُنسج حول ضحية بريئة روايات متناقضة تُضاعف من آلام العائلة.

في حادثة بان، لم يكن السؤال الأساسي:
“ما الذي جرى؟”،
بل “من يملك الحق في صناعة الرواية؟”.

وهذا أخطر ما في الظاهرة؛ إذ تحوّلت المعلومة إلى ملكية جماعية تُشكّلها الشائعات والآراء الفورية أكثر مما تُبنى على تحقيق أو مستند.

أصوات تبحث عن الحقيقة : مع ذلك، لا يمكن اختزال الفضاء الرقمي في الأكاذيب فقط. فملايين من العراقيين، خصوصًا من الجيل الجديد، يبحثون بصدق عن الحقيقة، ويطرحون السؤال البسيط نفسه:
“هل هذا صحيح؟”.

وهنا تبرز الحاجة إلى أصوات مهنية ومستقلة – صحافيين، باحثين، حقوقيين – يعملون كـ “مبدعين مستندين إلى الأدلة”، يواجهون طوفان التضليل بهوسٍ بالحقائق والتفاصيل الدقيقة.

مأزق المبدعين المستقلين في العراق : غير أن هؤلاء الملتزمين بالمصداقية يواجهون تحديات قاسية. فالإعلام المستقل ضعيف التمويل، والحماية القانونية شبه معدومة، والمنصات تُكافئ المحتوى المثير أكثر من الخبر الرصين.

إن إنتاج مادة موثوقة يتطلب وقتًا وجهدًا مضاعفين، في حين أن بث إشاعة يحتاج دقائق. هذه الفجوة جعلت الكثير من الأصوات الجادة تعمل في عزلة، بينما يسيطر على المشهد محتوى سطحي أو موجّه سياسياً.

الحاجة إلى ابتكار بنية إعلامية جديدة : إن الوضع الراهن يضع العراق أمام لحظة مفصلية: إما أن يستسلم لفوضى المعلومات، أو يبني نموذجًا جديدًا يعيد التوازن. المطلوب ليس العودة إلى الوراء أو إحياء الإعلام الرسمي البيروقراطي، بل ابتكار منظومة حديثة تُعيد الاعتبار للمعلومة الموثوقة.

يمكن التفكير في:
- إنشاء نظام اعتماد مهني مستقل يمنح “شهادة نزاهة إعلامية” للمؤثرين والصحافيين الملتزمين بالدقة.
- دعم جماعي للمبدعين المستندين إلى الأدلة، عبر شبكات مهنية توفر الحماية القانونية، وأدوات نمو الجمهور، ورعاة يقدّرون المحتوى الرصين.
- شراكات ذكية بين الإعلام التقليدي والمستقل، بحيث لا ينظر كل طرف للآخر كمنافس، بل كجزء من نسيج واحد قادر على مواجهة زيف العصر الرقمي.

الدرس من مأساة بان: القضية لم تكن مجرد حادث فردي، بل مرآة لأزمة أعمق: أزمة الثقة في المعلومة. فالقضاء حَسَم، لكن الرأي العام لم يَهدأ، لأن المنصات خلقت سرديات متوازية تُغذّي العاطفة أكثر من احترام الحقيقة.

من هنا، يصبح واجب الدولة والمجتمع معًا بناء “ثقافة معيارية” تُحترم فيها المآسي الإنسانية ولا تُستباح كسلعة إعلامية، ويُعاد فيها الاعتبار إلى الحقيقة كقيمة عليا، لا كترند عابر.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!