ابحث في الموقع

التطبيع مع الجريمة

التطبيع مع الجريمة
التطبيع مع الجريمة

بقلم: سالم حواس الساعدي - مستشار قانوني واعلامي تخصص دقيق عمليات وحرب نفسية

ظاهرة التبرير السلوكي وتبرئة الذات من خلال مقارنة النفس بالآخرين”، مع تحليل الأسباب النفسية والاجتماعية والقانونية، وربطها بنظرية معروفة في علم النفس:

في واقعنا المعاصر، نسمع كثيرًا من العبارات مثل:
• “مو بس آني أسرق، الدولة تسرق!”
• “مو بس آني أتعاطى، الكل تتعاطى!”
• “مو بس آني متجاوز، الشارع كله متجاوز!”

هذه التبريرات تُستخدم كآلية دفاعية نفسية لتخفيف الشعور بالذنب أو لتحييد المسؤولية الشخصية. إلا أن لهذه الظاهرة أبعادًا نفسية واجتماعية وقانونية خطيرة تهدد البنية الأخلاقية والمجتمعية، وتمثل تحديًا أمام العدالة.

أولًا: التحليل النفسي لظاهرة التبرير

1. آليات الدفاع النفسي (Defense Mechanisms)

التبرير أحد آليات الدفاع النفسي اللاواعي التي وصفها “سيغموند فرويد”، ويهدف من خلالها الفرد إلى تخفيف القلق الناتج عن التناقض بين سلوكه وقيمه الداخلية أو القوانين الخارجية.

2. نظرية المقارنة الاجتماعية (Social Comparison Theory - ليون فستنغر)

يفسر التبرير بناءً على مقارنة الفرد نفسه بالآخرين لتقييم سلوكه. وعندما يجد أن الآخرين يمارسون نفس الانحراف، يشعر بنوع من “التبرئة الذاتية الجماعية”. (حشر مع الناس عيد ) .

3. الإزاحة الأخلاقية (Moral Disengagement - ألبرت باندورا)

وفقًا لباندورا، يقوم بعض الأفراد بتعليق الضوابط الأخلاقية مؤقتًا عبر تبرير سلوكهم بأنه مبرر في سياق أوسع (“الدولة تسرق”، “الناس كلها تتجاوز”)، وبالتالي يتم تجميد الإحساس بالذنب أو المسؤولية.

ثانيًا: التحليل القانوني

1. عدم قابلية الجريمة للتبرير بمقارنة سلوك الآخرين

القانون لا يقبل مبررًا أن الجريمة أصبحت شائعة أو أن هناك “فسادًا عامًا”. فالقانون يُحمّل الفرد المسؤولية الكاملة عن فعله، بغضّ النظر عن البيئة المحيطة.

2. الركن المعنوي للجريمة

التبرير غالبًا ما يكشف عن وعي الجاني بالفعل، لكنه يحاول إظهار عدم الشعور بالذنب، وهذا قد يدل على وجود قصد جنائي، مما يعزز ركن العمد في الجريمة.

3. موقف القوانين من هذه التبريرات

التشريعات الحديثة (كالقانون العراقي أو المصري والقوانين الاخرى ) لا تمنح أي أثر قانوني لمثل هذه التبريرات. بل قد تُعدّ دليلًا إضافيًا على تعمد الجاني ومحاولته التنصل من المسؤولية.

ثالثًا: الانعكاسات الاجتماعية والقضائية

1. التأثير السلبي على المجتمع
• نشر ثقافة “الكل يخطئ” يؤدي إلى تعميم الفساد وتآكل القيم.
• غياب النموذج الصالح، وتكريس نظرية القطيع السلوكي.

2. تأثيره على القضاء
• التبريرات لا تشكّل دفاعًا قانونيًا، لكنها قد تُطرح في مرافعات الجناة لتخفيف العقوبة، لكن القضاء الواعي لا يُخضع الأحكام لمثل هذه العبارات حتى وان تعاطف معها .

3. خطر “التطبيع مع الجريمة”
• حين يُصبح السلوك المنحرف مبررًا اجتماعيًا أو إعلاميًا، يتحول من حالة فردية إلى سلوك جماعي خطر يهدد النظام العام والأمن القانوني.

رابعًا: الحلول والمعالجات المقترحة
1. التوعية النفسية والأخلاقية: تعزيز مفهوم “المسؤولية الفردية” في الإعلام والتعليم.
2. الإصلاح القانوني والتشريعي: تغليظ وتشديد العقوبات على الجرائم الجماعية ذات الطابع التبريري.
3. دعم القضاء المستقل: كي لا يتأثر بالأعذار الشائعة أو الضغط الاجتماعي.
4. استخدام علم النفس القضائي: لفهم دوافع التبرير وتقييم صدقها وتأثيرها على نية الجريمة.

ان التبرير الفردي للجريمة بناءً على شيوعها أو وجود فساد أعلى ليس مخرجًا قانونيًا ولا مبررًا أخلاقيًا. بل هو انعكاس لخلل نفسي في بنية الوعي الجمعي، يتطلب مواجهة متكاملة بين القانون، والنفس، والمجتمع. وكلما تغلغل التبرير في المجتمع، كلما أصبح القانون عاجزًا عن ضبط السلوك، وأصبح القضاء في مواجهة مع “تسويغات شعبية” لا تؤمن إلا بفكرة “الكل يفعل”، بدلًا من “أنا أتحمل مسؤوليتي”.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!