ابحث في الموقع

استقلالية القضاء.. راهن التجربة وأفق الطموح

استقلالية القضاء.. راهن التجربة وأفق الطموح
استقلالية القضاء.. راهن التجربة وأفق الطموح

بقلم: القاضي ناصر عمران

لا نغالي اذا ما قلنا إن مبدأ استقلال القضاء تطبيقا بوصفه مأسسة دستورية قانونية بعد سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 وحتى اكتماله بصدور قانون مجلس القضاء الأعلى رقم (45 ) لسنة 2017 في 23 / 1 / 2017 شكل مرحلة مفصلية لمفهوم الاستقلالية القضائية (قرارا ومؤسسة) في فرادته وتميزه ليس على مستوى العمل القضائي ضمن المحيط الاقليمي الشرق اوسطي والذي لايزال القضاء فيه مرتهنا الى بخضوع الاداري للسلطات الاخرى، بل الامر يتعدى ذلك الى المستوى الدولي حيث لم تشر الأنظمة القضائية في الدول الغربية المتقدمة إلى أن هناك استقلالية للقضاء عن السلطات الأخرى كما هو الحال في العراق.

والحقيقة ان هذه الاستقلالية وان وجدت فعليا كمأسسة بعد سقوط النظام إلا أن الاستقلالية كقرار قضائي كانت حاضرة في ضمير وقناعة القاضي العراقي العتيد بالرغم من التبعية الادارية للسلطات التنفيذية. ولعل تاريخ القضاء العراقي يُحدثنا عن العديد من القضاة الذين لم يخضعوا لإرادة السلطة الحاكمة وتعرضوا للاعتقال والسجن والفصل من الوظيفة دون ان يساوموا على عدالتهم القضائية.

ان استقلال القضاء بوصفة نتاجا مؤسساتياً أتى نتيجة مسيرة حافلة، وقبلها رؤية قدم لأجلها القضاء الكثير في مقارعة النظام السابق حتى تحقق له ما اراد، حيث نجح القضاء والمشرع العراقي في خلق بيئة سليمة للعمل القضائي من خلال الدستور الذي جاء في نصوصه اعتبار القضاء سلطة اتحادية مضافاً الى السلطتين التنفيذية والتشريعية وبشكل مستقل وعلى وفق مبدأ الفصل بين السلطات في ممارسة اعمالها واختصاصاتها كما تنص على ذلك المادة (47) الدستورية.

وبالرغم من ان المادة (19) سبقت المواد الدستورية الأخرى التي نظمت هرمية ومكونات وعمل السلطة القضائية حيث تضمنت مبادئ دستورية وقانونية وقضائية تعود بجذورها القانونية الى الاعلان العالمي لحقوق الانسان والشرعة الدولية والاتفاقيات والمعاهدات التي استقر عليها الضمير الانساني حيث جاء في الفقرة أولاً من المادة المذكورة : القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون. وعند التطرق لتنظيم هرمية السلطة القضائية ابتدأت بالمادة (87) من الدستور حيث نصت على ان السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها، وتصدر احكامها وفقا للقانون.

ثم اردف المشرع هذه الاستقلالية باستقلالية القضاة في المادة (88) والتي نصت على ان: (القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضاء او في شؤون العدالة) وللتعريف بمكونات السلطة القضائية جاءت المادة (89) منه لتعدد بتسلسل مكوناتي ان السلطة القضائية تتكون من: (مجلس القضاء الاعلى والمحكمة الاتحادية ومحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام وهيئة الإشراف القضائي والمحاكم الاتحادية الاخرى التي تنظم وفق القانون)، وقد خص الدستور مجلس القضاء الأعلى بإدارة شؤون الهيئات القضائية كما منح المحكمة الاتحادية العليا خصوصية مهنية بحسب طبيعة عملها باعتبارها متخصصة في الشأن القضائي الدستوري.

إن الهرمية الدستورية والقانونية للسلطة القضائية التي أفرزت من خلال التطبيق العملي ان الدستور صمت في نواح عديدة عند تناوله تنظيم السلطة القضائية الذي اكتفى فيها بالتأكيد على الاستقلالية وتحديد المكونات دون التنظيم والتعريف بالمصطلحات التي جاء بها حتى صدور قانون مجلس القضاء الاعلى الذي جاء تأكيدا لعلوية مجلس القضاء الأعلى الإدارية في ادارة شؤون المكونات الاخرى للسلطة القضائية تتمةً لإدارة شؤون الهيئات القضائية حسب ما نص عليه الدستور في المادة (90 ) منه. ان مجلس القضاء الاعلى استطاع ومن خلال تجربته القضائية الحديثة والفريدة التعامل مع الاوضاع والوقائع قانونية التي حضرت او اقحمت في النظام الديمقراطي الجديد بشكل ايجابي عزز من خلالها بناء العقيدة القضائية القائمة على الايمان بعدالة القضاء العراقي من خلال تقديم الخدمة القضائية للمواطن من جانب والفصل في النزاعات المعروضة عليه وفق القانون في الجانب الاخر ولعل التحدي الاعظم للقضاء ظهر من خلال التصدي لمراحل التغول الارهابي في نسيج المجتمع العراقي قبل ان يستشري في الجغرافية العراقية مضافا الى ذلك حداثة التجربة الادارية للسلطتين التنفيذية والتشريعية بعد سقوط النظام والانتقال من النظام الدكتاتورية الى النظام الديمقراطي.

لقد كان القضاء وبمؤسساته حديثة العهد بالهرمية الجديدة التي انتظمت مؤسساتيا في بنى تحتية متهالكة بحاجة الى التأهيل والتبديل وبالرغم من ذلك طالها الإرهاب بأعماله التخريبية التي لم تترك الحرث والنسل والعمران فعاثت في الوطن فسادا وحرقا وتفجيراً وقد ساهم مع القوات الامنية الحديثة العهد بالتشكيل وبرؤية إشرافية ورقابية قضائية ان يحقق الردع العام والخاص بمواجهة جرائم بشعة لم يشهدها التاريخ الإنساني مطلقاً، حتى استطاع بالجهود المتتابعة من تحقيق انتصاراته في الداخل العراقي مع عظيم التضحيات التي قدمها والذي لم يتوانَ في تطبيق القانون وتقديم تجربته القضائية في التصدي للإرهاب، ومع كل ذلك واجه القضاء من جانب آخر تحديا آخر مقترنا بالتغيير الجديد للنظام القانوني العراقي تمثل بالتحديات الخاصة بالتقارير التي تقدمها بعض المنظمات الدولية واللجان الحقوقية والتي تركت المجال واسعا لخيالها في كتابة هذه التقارير التي تقيم التجربة العراقية ومن خارج العراق وبالضد من التجربة القضائية العراقية إلا أن ذلك لم يفت من عضد القضاء او يحرفه عن مسيرته، حتى اضطرت هذه المنظمات واللجان أن تعود لتقدم تقاريرها وتقدم التجربة القضائية العراقية بشكلها الجديد كإحدى السلطات الاتحادية المنسجمة مع المران الديمقراطي للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في العراق، بل الاكثر من ذلك حيث جاءت تقاريرها المعتمدة على تقصي الحقائق في الاشارة الى ان القضاء العراقي المرتكز الاساس والملجأ الحصين للمواطن الذي يؤمن بعدالته وانصافه.

إن راهن التجربة القضائية افرز بيئة فعلية لاستقلالية قضائية حرص الجميع على ان تكون حقيقية فعلية يتم تقييمها وتقويمها من قبل مجلس القضاء العراقي فهو يؤمن بان تجربة الاستقلالية القضائية مثلها مثل اي تجربة اخرى ليست بمنأى عن ظهور سلبيات ترافق العمل وهو على الدوام في معالجة وتقويم لها، لكن بالمحصلة إن هذه السلبيات لم تنل من الرؤية القانونية والدستورية لاستقلالية السلطة القضائية التي كلما تسير باتجاه نضجها وتحقيق نتائجها ترافقها صعوبات تطبيقية تتمثل بجلها في الحاجة الى معالجات تشريعي قادرة على استشراف افق الطموح الذي تحمله رؤية مجلس القضاء الاعلى الذي يسعى حثيثا لتقديم تجربته القضائية المستقلة للمحيطين الاقليمي والدولي وبالفعل تم ذلك بخطى عملية من خلال التعاون القضائي بين مجلس القضاء الاعلى ونظرائه في الدول الاخرى والذي تجسد من خلال عقد العديد من مذكرات التفاهم والاتفاقيات القضائية التي تعزز من تجربة القضاء العراقي.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!