بقلم: د. اسامة شهاب حمد الجعفري
مواقع التواصل الاجتماعي عالم افتراضي موازي للعالم الواقعي الذي نعيشه, وهذا العالم لم يكن خارج نطاق حكم القانون, فجميع الافعال والاقوال التي تقع فيه اعتبرها القانون وقائع مادية يترتب عليها حكم قانوني واجب النفاذ في الواقع الحقيقي, وهناك العديد من الدعاوى المنظورة امام القضاء بسبب ما يثيره هذا الواقع الافتراضي. وهذا بحد ذاته اعتراف قانوني بوجود هذا الواقع مهما كانت تسميته, وبما انه لا يمكن انتزاع الصفة الانسانية من القاضي والتي تفرض بدورها عليه علاقات اجتماعية كإي فرد في المجتمع, ومن هذه العلاقات الاجتماعية "الصداقة" مع الاخرين, وبسبب ثنائية العالم التي نعيشه اصاب مصطلح "الصداقة" ثنائية ايضاً, فظهرت "صداقة واقعية" و "صداقة افتراضية", وحيث ان المادة (93/2) من قانون المرافعات المدنية العراقي رقم 83 لسنة 1969 اجازت رد القاضي اذا ماكانت بينه وبين احد الطرفين "صداقة" يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل, بهدف حماية مبدأ "حياد القاضي" وتعزيز الثقة به في المجتمع وتثبيت اركان استقلال القضاء كمؤسسة حامية حقوق الافراد والدولة. فما مدى اعتبار صداقة القاضي لاحد الخصوم في مواقع التواصل الاجتماعي من مصاديق "الصداقة" التي تجوز رد القاضي حسب توجهات محكمة النقض الفرنسية؟
كان لمحكمة النقض الفرنسية , الغرفة المدنية الثانية, بقرارها بتاريخ 5/كانون الاول/ 2017 (Cour de cassation, 1re civ., 5 janv. 2017, n° 16-19.099) سبق الفصل بهذا الشأن عندما عين نقيب المحامين الفرنسيين محامٍ مفوض عنه للفصل بالنزاع بين اثنين من المحامين, وخلال الاجراءات تقدم احدهم بطلب عزل المحامي المفوض لتبين وجود صداقة في الفيسبوك مع الخصم, ووصل النزاع بشأن ذلك الى محكمة النقض الفرنسية , حيث ردت الطلب واعتبرت "الصديق" المستعملة في مواقع التواصل الاجتماعي لا تعني بالضرورة الاحالة الى العلاقات الصداقة التقليدية , فهذا التواصل على صفحات الفيس بوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي لا يكفي لتوصيف العلاقة بين الفرقاء بطريقة تثبت عدم الحياد, معتبرة ان شبكات التواصل الاجتماعي ليست الا وسيلة "تعارف" و"تواصل" بين اشخاص يتشاركون النشاطات والاهتمامات. ويبقى على المدعي ضرورة اثبات وجود رابطة الصداقة الحقيقية.
والقراءة الدقيقة لقرار محكمة النقض الفرنسية يتضح ان الاصل ان كل الصداقات التي يقيمها القاضي على المواقع التواصل الاجتماعي هي ليست "صداقة" وانما "تواصل" ولكن هذا لا يمنع ان يتطور هذا "التواصل" الى "صداقة" ومع ذلك فمجرد تطور "التواصل" الى "صداقة" على مواقع التواصل الاجتماعي ليست وحده سبباً كافياً لرد القاضي وانما الصداقة المعتبرة في رد القاضي هي التي يجب ان تصل الى مستوى تؤثر معه على الضمير القضائي بشكل يرجح معها عدم الاستطاعة الحكم بغير ميل. فالعبرة ليست بوجود الصداقة وانما بمدى تأثيرها في حياد القاضي, وهذا التأثير يقدر تقديراً قضائياً بمقياس موضوعي قائم على القرائن وظروف كل حالة. فوفقاً لقرار محكمة النقض الفرنسية يجب ان يكون هناك انعكاس للصداقة الرقمية بين القاضي واحد الخصوم في الواقع الحقيقي ولا تقتصر على الواقع الافتراضي. فيكون هناك نشر لصور مناسبات بين الطرفين وزيارات واجتماعات حقيقية بين القاضي واحد الخصوم.
الا ان هناك اتجاه مغاير للقضاء المصري في احد قراراته غير المنشورة عام 2020 والتي اشار اليها الفقه كان قد اوضح ان الصداقة الرقمية بين القاضي واحد الخصوم تكون سبباً للرد عندما توجد علاقة تتجاوز المجاملة الافتراضية تدعمها تعليقات ودعوات خاصة مستمرة ومشاركات غير منقطعة فتعد قرينة قابلة لاثبات العكس على ان الصداقة دخلت في نطاقها غير الطبيعي. بمعنى ان الصداقة المستمرة حتى وان اقتصرت على مواقع التواصل الاجتماعي ولم تكن هناك صداقة في الواقع الحقيقي فانها تكون سبب للرد اذا ما نهضت قرائن تدل على ذلك.
وخلاصة القول: ان وجود الصداقة الرقمية بين القاضي واحد اطراف الدعوى لا يعد من قبيل "الصداقة" التي تكون سبباً لرد القاضي مالم تدعم بتواصل وتعليقات مستمرة ومشاركات بين الصفحتين للاراء والمناسبات بشكل يدل على ان احد الخصوم يتميز بعلاقة رقمية خاصة مميزة من بين كل الاصدقاء, فتنهض قرينة قابلة لاثبات العكس على وجود "الصداقة" التي تكون سبب فقدان الحياد.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!