بقلم: د. محمد القريشي
بعض التساؤلات تثار عن سبب تفاعل الرأي العام حول انتهاكات تخص عنف المرأة او حالات فساد في مناطق الوسط والجنوب، وتحديدا في البيئة الشيعية، في الوقت الذي لا تلاقي فيه حوادث مشابهة، نفس التفاعلات في بيئات أخرى في مناطق شمال العراق وغربه.
يمكن تفسير هذا الاختلاف من خلال الخصوصية الثقافية للمجتمع الشيعي، حيث تلعب أدبيات مكافحة الظلم ورفض الفساد دورًا محوريًا، وهي أدبيات متجذرة في الثقافة الجمعية عبر الاستذكار المتكرر لمأساة كربلاء. هذا الاستذكار يولّد حساسية شعبية عالية تجاه قضايا الظلم الاجتماعي والانحراف السياسي.
في هذه المجتمعات، تجري مناقشة قضايا الشأن العام وما ينتج عن ذلك من تباين الرؤى حولها، وتبلغ ذروتها المدن الدينية (مثل النجف وكربلاء) عبر المنابر والخطباء والمجالس والمقاهي، وهو ما يجعل الفضاء العام واسعا و متاحا لعدد كبير من المواطنين، مقارنة مع مناطق اخرى من البلاد.
وقد أثارت انتباهي، خلال احتجاجات تشرين 2019، سرعة الشباب المحتجين، في تشكيل حلقات تأبينية بعد سقوط شهداء بينهم، وقيامهم بنصب الشموع على الارض واستذكار الراحلين بالنحيب وقراءة القصائد على طريقة المجالس الحسينية. ويبرع قسم هام من القراء الحسينيين في نقد الاداء السياسي وتوصيف مواطن الخلل في ادارة الدولة وتعبئة الرأي العام.
وفي هذا السياق، مثلا، يناجي احد القراء إمامه الشهيد، على وقع الطبول ولطم الشباب المتحمس، واصفا علاقة الشعب بالأحزاب كما تبينه الأبيات التالية:
ياحسين هاي الاحزاب ملينة من طاريهه
ياحسين نشرح لك نبين الاسباب
نشكي لك الضيم السدة من الاحزاب
كل حزب منهم للوطن كلي شجاب؟
ويدعو قارىء آخر الجموع المنفعلة من حوله إلى عدم اختزال قضية الحسين بدمعة وحزن وتوجيهها إلى ثورةً على الفساد :
الحسين مو دمعة وسواد
الحسين ثورة على الفساد
ومن ناحية أخرى، فإن إدراك الشيعة لوزنهم الديمغرافي وموقعهم المحوري في صناعة القرار السياسي، اضافة الى قدرتهم على التأثير، يعزز لديهم إحساسًا بأنهم معنيون مباشرة بالمساءلة العامة.
العوامل الخارجية الأخرى المؤججة للأحداث، قد تكون موجودة. لكنها تبقى هامشية نسبة إلى الخصوصيات الثقافية والسياسية للمجتمع. كما ان وجودها هو بحد ذاته ناتج عن سوء اداء النخبة السياسية بشكل عام.
كل ذلك، يجعل من أي حادثة تقع في هذه البيئات فرصة مفتوحة للنقاش والجدل، ولإعادة استحضار الأسئلة الكبرى حول : العدل والمساواة والكرامة الإنسانية، وربطها بالعنوان المركزي للثورة الحسينية: مقاومة الظلم والفساد بأي شكل من الأشكال.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!