في البصرة، تتقاطع أنابيب النفط مع أنفاس البشر، فكل شعلة غاز مشتعلة تقابلها مأساة صحية جديدة. بين سموم الهواء ومياه ملوثة، تتسع دائرة السرطان والفشل الكلوي لتكشف الوجه القاتم للثروة النفطية غير المنضبطة. هنا، حيث يعيش الناس على أرض الذهب الأسود، صار المرض أثقل من الثروة، والموت البطيء أكثر حضورا من الحياة.
وقال مهدي التميمي مدير مفوضية حقوق الإنسان، إن “أسباب التلوث متعددة ومركبة وتشمل احتراق النفط الذي يخلق غيمة تلوث تمتد لمساحة تزيد عن 70 كيلومترا مربعا من الشمال مرورا بمركز المدينة وحتى أطرافها، إضافة إلى التلوث القادم من غرب وجنوب غرب وجنوب المدينة ويحتوي على ملوثات مثل غاز البنزين والميثان وأول أكسيد وثاني أكسيد الكربون وأكسدة الكبريت إلى جانب مواد مشعة مثل الراديوم والمغنيسيوم واليورانيوم”.
وأكد التميمي، أن “محافظة البصرة تشهد تفاقما خطيرا للأزمات الصحية”، موضحا أن “أعداد إصابات السرطان تصل إلى 600 – 700 حالة شهريا فيما تجاوزت حالات الفشل الكلوي 20 ألف إلى 30 ألف حالة خلال العام الماضي حتى الآن مع توزيع هذه الحالات على مناطق البصرة بين القرنة والزبير وخور الزبير وأبو الخصيب والتنومة وغيرها”.
وأضاف، أن “هذه الأرقام تعكس الواقع الصحي المزري في المحافظة وتوضح مدى تأثير التلوث البيئي المركب على صحة المواطنين”.
ولفت إلى أن “التلوث لا يقتصر على الهواء بل يشمل المياه التي تُلوث جرثوميا وكيميائيا بسبب الصرف الصحي والنفايات وحرق القمامة، إضافة إلى الملوثات الناتجة عن آلاف المولدات الكهربائية يوميا والتصحر وغياب الغطاء النباتي، مما يضاعف الأثر الصحي على سكان المحافظة”.
وأظهرت الدراسات والقراءات الميدانية أن مستويات التلوث في مركز مدينة البصرة وخاصة منطقة العشار وصلت في أحد الأيام نهاية عام 2024 إلى أكثر من 70 بالمئة من تركيز الملوثات في الهواء، ما يعني أن مساحة المتر المكعب كانت مشبعة بغازات ضارة مثل الميثان ومركبات أخرى وهو ما يعكس خطورة الوضع البيئي بشكل واضح، بحسب مختصين.
ويعيش العراق تفاقما متسارعا في الإصابة بمرض السرطان، وسط إهمال حكومي من جهة، ونقص في التمويل المخصص لمراكز العلاج من جهة أخرى، مما يعكس تدهورا حادا في القطاع الصحي في ظل نقص الأدوية والمعدات الطبية الأساسية.
وقد طالب نواب بتشكيل فريق وطني متخصص لدراسة الأسباب الكامنة وراء الارتفاع “غير المسبوق” في معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية في العراق، محذرين في الوقت ذاته من انهيار الوضع الصحي في البلاد، نتيجة الضغط المتزايد على القطاع الطبي، وشح السيولة في أغلب المرافق.
ويعاني مرضى السرطان في العراق، (57 بالمئة منهم نساء)، من نقص كبير في الأجهزة والأدوية والخدمات الطبية والمراكز التخصصية لعلاجهم ويشكون الإهمال الحكومي.
ويعد السرطان أحد مسببات الوفيات العشر الأولى في العراق، وكذلك في الشرق الأوسط، بحسب متحدث وزارة الصحة سيف البدر، الذي أكد في تصريح سابق، أن السرطان مشكلة عالمية، ونسب الإصابة به في العراق دون 80 حالة لكل 100 ألف عراقي في العام الواحد، وهي ضمن المعدل العالمي، لكنه يشير إلى أن أكثر الحالات تكتشف متأخرة من المرحلة الثالثة والرابعة من المرض بعد أن يكون قد انتشر إلى أعضاء الجسم ويكون علاجه أكثر صعوبة وتعقيدا.
وعلى الرغم من عدم وجود تقارير علمية مؤكدة تثبت العلاقة بين حالات السرطان وأبراج الاتصال، فإن الحكومة قررت عام 2019 إلزام شركات الاتصال بعدم نصب أي أبراج لشبكاتها داخل الأحياء السكنية، غير أن كثيرا من الشركات تحايلت على القرار، في سبيل المنافسة بينها على تقوية بثها داخل المدن.
ووفقا للدراسات وتصريحات العديد من المسؤولين الحكوميين والمنظمات الدولية، فإن الحروب التي شهدتها البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي، وصولا إلى العام 2003 والأسلحة التي استخدمت فيها، كانت السبب الرئيس في تفشي السرطان في العراق.
يجدر بالذكر أن جلسة العلاج بالإشعاع في المستشفيات العراقية خلال الدوام الصباحي مجانية في حين تكلف الجلسة الواحدة 40 ألف دينار (نحو 28 دولارا) في الدوام المسائي، وعدد الجلسات يقدرها الأطباء بحسب كل حالة مرضية.
وحول الفشل الكلوي فإن هناك أكثر من نصف مليون حالة نشطة من الجنسين للمرض في عموم المحافظات، معظمهم ممن تجاوزوا سن الأربعين، بسبب انتشار مرض السكري، وارتفاع ضغط الدم، وتزايد تناول المشروبات الغازية، إلى جانب مشاكل تلوّث المياه وجودتها بسبب التنقية السيئة، بحسب وزارة الصحة.
وكان رئيس لجنة الصحة النيابية ماجد شنكالي كشف في 8 نيسان الماضي، عن وجود نقص كبير في التخصيصات المالية لتوفير خدمة صحية جيدة، فيما أشار إلى صرف الحكومة 200 دولار ضمن الانفاق الحكومي السنوي للفرد بالخدمة الصحية أي 17 دولارا شهريا.
وكانت منظمة الصحة العالمية كشفت في تقرير سابق ظهور علامات الإصابة بأمراض الكلى لدى نحو 850 مليون شخص في العالم، وأن نحو 10 في المائة من سكان العالم مصابون فعلاً بقصور كلوي.
وكان مجلس النواب، قد أقر في حزيران 2023، الموازنة المالية للسنوات 2023 و2024 و2025 بعد مخاض عسير وسلسلة من الجلسات البرلمانية، وعدّت هذه الموازنة هي الأضخم في تاريخ البلاد، إذ تبلغ قيمتها نحو 153 مليار دولار لكل عام.
وتظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن الحكومة العراقية أنفقت خلال السنوات العشر الأخيرة مبلغا أقل بكثير على الرعاية الصحية للفرد من دول أفقر كثيرا، إذ بلغ نصيب الفرد من هذا الإنفاق 161 دولارا في المتوسط بالمقارنة مع 304 دولارات في الأردن و649 دولارا في لبنان وفقا لتقرير سابق.
وأعلنت وزارة الصحة العراقية في كانون الأول 2023 عن تخفيض سعر غسيل الكلى بمعدل 10 دولارات لكلِ غسلة، وذلك في إطار الجهود الرامية لتوفير الرعاية الصحية للمواطنين بأسعار مناسبة.
ويبلغ سعر غسيل الكلى في العراق، 100 دولار لكل غسلة.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!