منذ أن تسلّم السيد محمد شياع السوداني رئاسة الوزراء، وهو يحاول أن يرسم لنفسه صورة رجل الدولة الوسط، ذاك الذي يوازن بين متناقضات الداخل العراقي وتقلبات المنطقة، لكنّ المفارقة أن مسيرته هذه لم تخلُ هي الأخرى من تناقضات صارخة: رجل جاء بدعم فصائل “الإطار التنسيقي”، من دون قاعدة حزبية واسعة أو رصيد سياسي وازن، ليقدّم نفسه في ما بعد كصاحب مشروع مستقل، يحلم ببناء “حكومة مركزية” قادرة على ضبط السلاح والمال والانفتاح على الخارج.
لقد سعى السوداني، بإصرار يكاد يثير الإعجاب أحيانا والابتسام أحيانا أخرى، إلى بلوغ لحظة رمزية بعينها: العبور عبر أطول مجسرة “بنكينيّة” تبدأ من ساحة النسور وتنتهي عند عتبة المكتب البيضاوي. من أجل ذلك، لم يتردد السيد السوداني في إرسال مستشاريه “الحكماء”، بتنوّعهم الإثني والديني، ولا في تلميع صورته داخل واشنطن عبر مستثمرين في سوق “حرية الصحافة” و”حقوق الإنسان”. ولم يخشَ السوداني تقلبات ترامب غير المحسوبة، المهم أن تطأ قدماه عتبة البيت الأبيض!
من شعارات التحرير إلى مصافحة في المنتجع
هنا تكمن المفارقة، فالسوداني نفسه كان من بين الأصوات التي رفعت شعار “نصرة قوى المقاومة الفلسطينية”. ولم يكتفِ بالتصريحات، بل حاول إحراج القادة العرب، مدعوما بمحور المقاومة الذي أوصله إلى السلطة في بيان موقف العراق الرسمي. غير أنّ الزمن والتغييرات الدراماتيكية لم ترحم تلك الشعارات؛ فالكوارث التي اجتاحت المنطقة أعادت صياغة الحسابات: غزة غدت مقبرة بسماء مفتوحة، سوريا انهارت على يد من كانوا بالأمس جهاديين، وإيران حُوصرت عسكريا واقتصاديا، وحزب الله اللبناني فقد قادته التاريخيين والآلاف من مقاتليه، ليجد نفسه من جديد في مواجهة اللبنانيين أكثر من تصديه لإسرائيل. حتى الفصائل العراقية التي وعدت الأميركيين “بالجحيم” صارت تطالب ببقاء قواتهم.
عند هذه العتبة، أدرك السوداني أن معادلات الداخل والخارج تغيّرت. لم تعد طهران تفرض أسماء رؤساء الوزراء كما في السابق، وواشنطن وإن لم تختر المرشح فهي قادرة على رفضه. وبين القوتين، يحاول رئيس الوزراء العراقي أن يجد لنفسه مقعدًا لا ينهار مع أي اهتزاز جديد.
قمة شرم الشيخ: صورة أكبر من بروتوكول
مشاركة السوداني في قمة شرم الشيخ لم تكن مجرد حضور عابر، ولم يكن على الاغلب قرارا حكوميا بل “تصميم” شخصي للظهور وسط جوقة إبراهيمية تم تحضير الرأي العام له أياما قبل المشاركة، عبر تسريبات انتهت بلقائه “التاريخي” بالرئيس ترامب الذي استغرق 32 ثانية، تخللتها مصافحة مباركة، وصورة بإبهام مرفوع كدليل على تحقيق المهمة. الجميع تقريبا مقتنع بأن السيد السوداني أراد من تلك الصورة أن تعكس تفسيرا يلمح بقبول واشنطن الترامبية به: وبذلك يظهر رئيس وزراء، بحسب ما يقدمه نفسه، قادر على مواجهة الميليشيات وضبط السلاح بيد الدولة، ومستعد حتى لمضايقة النفوذ الإيراني في العراق إذا كان ذلك ثمن البقاء. أراد أن يقول إنه ليس مجرد “مدير عام”، بل رجل دولة يعرف كيف يخاطب العالم من موقع مختلف وبروح براغماتية.
المفارقة أن السوداني كان المسؤول الشيعي الوحيد في ذلك المنتجع، في وقت آثرت دولة مثل لبنان الامتناع عن المشاركة حفاظا على توازناتها الداخلية الدقيقة. وكأن الرجل أراد أن يُظهر جرأته بكونه “المقامر المختلف”، الذي يضع يده في يد ترامب فيما الآخرون يحسبون خطواتهم بدقة، خشية من غضب ايران وحلفائها في العراق.
وربما كان في ذهنه مثال آخر: إذا كانت واشنطن قد قبلت بالتعامل مع شخصية مثل أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، الذي رُصدت جائزة بـ10 ملايين الدولارات لمن يأتي برأسه أو بمعلومة توصل إليه، فكيف سترفض رئيس وزراء يَعِدها بفتح أبواب العراق أمام استثماراتها، ويحدّ من فوضى سلاح الميليشيات الموالية لإيران ويبقي على التواجد العسكري الأمريكي؟
السوداني: من صورة “المقاومة” الى روح المقامرة
يبقى السؤال: هل يمكن لرجل مثل السوداني أن يمضي فعلا في مواجهة القوى التي صنعت وصوله إلى الحكم؟ وهل يمتلك شجاعة الانقلاب عليها إن اقتضت المصلحة؟ أم أن صورته في شرم الشيخ ستظل مجرّد مشهد رمزي عابر، يُضاف إلى سجل المفارقات العراقية التي تتجاور فيها الشعارات الكبرى مع الصفقات الصغيرة؟
قد يظن السوداني أن مصافحة ترامب تعطيه شرعية جديدة، وأن ظهوره في شرم الشيخ يقدّمه للعالم كرجل الدولة المقبول أميركيا. غير أن هذه المقامرة قد تنقلب عليه سريعا. فواشنطن تعرف تمامًا حدود سلطته، والفصائل لا تزال تعتبره موظفًا لديها أكثر مما تراه قائدا لها، والجمهور العراقي لم يعد يثق بخطابات “المقاومة” ولا بوعود “الإصلاح”. وفي هذا، يبدو أن السوداني لا يخطو بخطوات رجل دولة، بل بمقامرات لاعبٍ يراهن على أوراق يعرف العديد أنها خاسرة.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!