ابحث في الموقع

إحياء دور العراق كلاعبٍ أساس في موازنة استقرار الشرق الأوسط

إحياء دور العراق كلاعبٍ أساس في موازنة استقرار الشرق الأوسط
إحياء دور العراق كلاعبٍ أساس في موازنة استقرار الشرق الأوسط
بقلم: مصطفى الكاظمي - رئيس وزراء العراق 2020 - 2022

يقف الشرق الأوسط اليوم على أعتابِ مفترق طرقٍ حاسمٍ. إذ تشهد منطقتنا، ابتداءً من فلسطين وإسرائيل وصولاً إلى لبنان وسوريا واليمن وإيران، حالة من التصعيد والعنف المتزايد. وفي خضمِّ هذا الاضطراب، يبرز أسم دولة واحدة تتغنَّى بشبكةٍ من العلاقات التاريخية والمسؤولية الأخلاقية لقيادة مسار الحوار وترسيخ الاستقرار. هذه الدولة هي وطني؛ العراق.

وعلى مرِّ العصور، تميَّز العراق بكونه مهداً للحضارة، وملتقى للثقافات والحوار والتعايش، عوضاً عن أنه مجرد أرضٍ تتقاطع فيها الإمبراطوريات. ووسط هذه الأحداث، وعلى الرغم من مآسي الحروب وثقل إعادة نهوضه، أثبت العراق مراراً قدرته على أن يؤدِّي دوراً محورياً في الربط بين الشرق والغرب، وبين الدول العربية، وبين القوى الإقليمية المتنافسة. واليوم، بات من الضروري أن يستعيد العراق هذا الدور المحوري كوسيطٍ بنّاء، بإرادة متجددة وعزيمة راسخة.


إرث العراق في الوساطة

يتمثّل تاريخ العراق بالحوار والانفتاح. إذ ظلَّ العراق عبر العصور، بفضل موقعه الجغرافي المركزي، وعمقه الثقافي، وصلاته المتينة مع مختلف الفاعلين الإقليميين، ساحة طبيعية للتلاقي والتفاهم. وأثناء تسلُّمي مهام الرئاسة، استضاف العراق جولاتٍ من الحوار بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي أفضت في العام 2023 إلى الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. تكللت هذه اللحظة بفخرٍ لكل العراقيين، فهي دليل على أنَّ هذه البلاد التي وُصِمَت على أنها ضحية للصراعات، قادرة على أن تكون محرِّكاً للسلام. عزَّزت تلك التجربة قناعتي أن الوساطة ليست خياراً للعراق، إنما جزءٌ أصيل من رسالته التاريخية. فالأمر لا يقتصر على الدبلوماسية، إنما هو إحياءٌ لدور العراق العريق في جمع الشعوب والتقاليد المختلفة، وفي إفساح المجال للتعايش في وقتٍ لا يرى الآخرون سوى صداماً. وفي هذه اللحظة الحرجة التي يمرُّ بها الشرق الأوسط، لم تعد قدرة العراق على الوساطة مجرد فرصة، إنما أصبحت ضرورة حتمية لاستقرار المنطقة بأسرها.


تعزيز الاستقرار من الداخل

إنّ مصداقيَّة العراق في الخارج تستند إلى متانة ما نبنيه في الداخل. فعلى الرغم من عقودٍ من المعاناة، أظهر الشعب العراقي عزيمةً استثنائية على إصلاح اقتصاده وتعزيز مؤسساته وإحياء مجتمعه.

أطلقت الحكومة تحت رئاستي في العام 2020 الورقة البيضاء للإصلاح الاقتصادي، وهي الرؤية الأساس التي هدفت إلى تجاوز اعتماد العراق التاريخي على النفط. وقد رسَّخت هذه الورقة الطريق إلى إحداث تغييرات هيكلية والاستثمار في رأس المال البشري، وتطوير قطاعات الزراعة والصناعة والاقتصاد الرقمي. لم تكن تلك الإصلاحات سهلة، وقد تطلّبت تضحيات جسيمة، إلَّا أنني كنت وما زلت أؤمن أن بناء اقتصاد متنوعٍ ومتين هو الضمان الحقيقي لصون سيادة العراق وتعزيز مكانته في الإقليم.

وعلى الرغم من هشاشة التقدّم الذي أحرزناه، إلا أنه رسّخ في داخلي قناعة أساسية مفادها إنَّ دور العراق كوسيط مرتبط ارتباطاً وثيقاً بدوره كمُصلِح. فالدولة التي تُعيد بناء نفسها على أسسٍ شاملة وديموقراطية ومبتكرة، هي الدولة القادرة على إلهام الثقة وقيادة الحوار.


مواجهة التحديات الأمنية

من الصعب ترسيخ جوهر الديموقراطية والحوار إلا في ظلِّ استقرارٍ داخلي وخارجي متين. فلا يمكننا تجاهل الأخطار التي تهدّد أمننا من الداخل. إذ سعت الجماعات المسلّحة الخارجة عن سلطة الدولة، والمدفوعة بأجندات خارجية، إلى جرِّ العراق إلى صراعاتٍ بالوكالة. إذ عرَّضت أفعالها أمننا الوطني للخطر، وهددت بإشعال تصعيدٍ أوسع وتقويض سيادتنا.

يجب على العراق أن يواجه هذه التحديات بوضوحٍ وحزم. إلَّا أن الحلَّ لا يمكن أن يكون في الانعزال. فالاستقرار الداخلي للعراق يعني استقرار المنطقة بأسرها. فلا يمكن اعتبار الحوار والدبلوماسية شعاراتٍ مثالية فحسب، إنما أدوات بقاءٍ وركائز استقرار. ويسهم العراق من خلال وساطته في نزاعات المنطقة، في تقليص الضغوط الخارجية التي تُغذِّي عوامل عدم الاستقرار داخل حدوده.


أنموذج للتعايش

يبقى العراق، وعلى الرغم من الصورة القاتمة التي تُرسم لنا أحياناً، أرضاً للتعددية والثراء الإنساني. فقد عكس تعداد العام 2024 المزيج العراقي الأصيل الذي يضم المكوِّنات كافة؛ من الشيعة والسنة والكورد والمسيحيين، وسائر الأطياف الذين ما زالوا يعيشون جنباً إلى جنب في نسيجٍ واحد.

لن أنسى أبداً شهر آذار/ مارس من العام 2021، حين حظينا بشرف استقبال قداسة البابا فرنسيس في زيارةٍ تاريخية إلى العراق. لقد كان لقاؤه مع سماحة المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني في النجف الأشرف محطةً روحية فارقة، وتجسيداً عميقاً لقدرة العراق على احتضان قيم التعايش والاحترام المتبادل. لقد قدَّمت تلك الزيارة للعالم صورةً مغايرة للعراق؛ صورة بلدٍ لا تمزِّقه الانقسامات، بل توحده تنوّعاته. إنَّ هذا التنوع لم يكن يوماً ضعفاً، إنما هو مصدر قوة العراق الحقيقية. فهو يمنحنا الشرعية الأخلاقية للدعوة إلى السلام، لأننا نعيش، وسنظل نعيش، وسط تعقيدات التعددية داخل حدودنا.


الطريق إلى الأمام

إنَّ الشرق الأوسط لا يفتقر إلى الموارد ولا إلى الطاقات البشرية المبدعة؛ ما يفتقر إليه حقاً هو الثقة. ولدى العراق اليوم فرصة حقيقية للمساهمة في استعادة تلك الثقة، من خلال القيام بدوره كوسيطٍ نزيه وبانٍ للجسور بين الخصوم. فبترسيخ ثقافة الحوار وتهيئة منصَّاتٍ للتفاوض، يمكن للعراق أن يسهم في نقل المنطقة من دوامة المواجهة المستمرة إلى آفاق السلام المستدام.

يجب ألا يرضى العراق أن يكون ساحةً لتصفية صراعات الآخرين، إنما عليه أن يستعيد دوره الطبيعي كمُثبّتٍ لاستقرار المنطقة وكفاعلٍ مستقلٍّ ينطق بصوت السلام. وبهذا، لن يحمي العراق مستقبله فحسب، إنما سيُسهم أيضاً في كسر حلقة العنف التي كبَّلت منطقتنا زمناً طويلاً، ويفتح الباب أمام عهدٍ جديدٍ يسوده التفاهم والتنمية والأمل.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
كرار الاسدي

كرار الاسدي

كاتب في وكالة نون الخبرية

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!