ويقول الخبير المائي تحسين الموسوي، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “الحديث عن حل أزمة المياه الحالية عبر الأمطار غير دقيق، فالأمطار التي شهدها العراق مؤخراً تعد بداية الموسم وليست كميات كبيرة كما تم تداولها”.
ويوضح الموسوي، أن “بيانات وزارة الموارد المائية والأرصاد الجوية تشير إلى أن كمية التساقطات لم تتجاوز 250 مليون متر مكعب، وهي كمية بسيطة جداً، إذ بلغت أعلى نسبة في محافظة ديالى (بهرز) نحو 18 ملم، وفي محافظة نينوى تجاوزت الـ30 ملم فقط، وهي نسبة ضئيلة لا يمكن الاعتماد عليها في الخزن الاستراتيجي”.
ويضيف أن “الفائدة من الأمطار والسيول تتحقق عندما تسقط في مقدمة السدود، إذ يمكن حينها الاستفادة منها في تعزيز الخزين المائي، أما إذا هطلت خلف السدود، خصوصاً في المناطق الجافة، فيمكن أن تسهم في تنشيط الغطاء النباتي أو تغذية المياه الجوفية، لكن العراق لا يمتلك حتى الآن مشاريع كافية لحصاد المياه رغم وجود دراسات كثيرة بهذا الخصوص”.
تغير التنبؤات
ويتابع الخبير المائي، قائلاً إن “الهيئة العامة للأنواء الجوية كانت قد أشارت إلى أن الموسم الحالي سيكون جافاً، لكن التنبؤات تغيرت وهذا أمر طبيعي بسبب ظواهر التطرف المناخي التي تحدث بشكل مفاجئ، فقد يستمر الجفاف أو تزداد الأمطار خلال الفترة المقبلة”، مبيناً أن “التوقعات تشير إلى موجة جديدة من الأمطار خلال العشرين يوماً القادمة، إضافة إلى تساقطات أخرى في شهر كانون الأول، لكن كل ذلك يبقى بيد الله”.
ويشير الموسوي إلى أن “الرسائل المطمئنة التي ترسلها وزارة الموارد المائية خطأ كبير، لأن الواقع يشير إلى أن الخزانات العراقية وصلت إلى مرحلة الخزين الميت، ما يعني أننا نعيش حالة ندرة مياه حقيقية، والحديث عن مشاريع زراعية أو توسعة الخطة الشتوية يشكل خطراً حقيقياً على البلاد”، مبيناً أن “حتى الاتفاقية العراقية – التركية – الإيطالية الأخيرة لم تتضمن تحديداً واضحاً لحصص العراق المائية”.
وأكد وزير الموارد المائية عون ذياب، مطلع الأسبوع الحالي، أن موسم الأمطار يبشر بسنة رطبة بعد أكبر موجة جفاف في تاريخ العراق، فيما بين أن العراق ليس في مرحلة التخزين حالياً والاهتمام موجه لوسط وجنوب البلاد. وقال ذياب إن “شهور كانون الثاني وشباط وآذار ستشهد كميات أمطار جيدة بعد سنوات طويلة من الجفاف”.
كما أعلن المتحدث باسم الوزارة خالد شمال قبل يومين، أن كمية المياه التي تم خزنها من أول موجة مطر في هذا الفصل بلغت نحو 359 ملم، و”هذا سيساهم في دعم الزراعة الديمية وخطة الزراعة الشتوية”.
لكن الموسوي يعود ليؤكد “إذا لم تكن هناك إطلاقات مائية كافية من دول المنابع، فسيكون الصيف المقبل خطيراً للغاية، ليس فقط من ناحية الزراعة بل حتى في تأمين مياه الشرب، فمحافظات عدة عانت خلال الصيف الماضي من انقطاع المياه أو تلوثها، والبصرة على سبيل المثال أصبحت مياهها شديدة الملوحة بسبب تغلغل مياه البحر، كما أن محافظات أخرى مثل بغداد واجهت نقصاً حاداً في الإمدادات، ما اضطر بعض المناطق إلى المراشنة”.
ويبين أن “الأزمة كشفت كل الحقائق، إذ خرجت معظم المحطات الكهرومائية عن الخدمة بسبب انخفاض مناسيب المياه، ما يعكس أن الخزين العراقي في وضع حرج جداً، وحتى مع تساقط الأمطار، فإن أي كمية مهما كانت محدودة يجب أن تدخل في إطار الخزن الاستراتيجي لتعويض النقص الحاصل”.
ويتابع الموسوي أن “وزارة الموارد المائية، رغم الظروف الصعبة، اضطرت إلى وضع خطة شتوية محدودة لا تتجاوز مليون دونم، معظمها للزراعة السطحية وبنسبة بسيطة للزراعة بالمرشات، ومن الصعب تحقيقها في ظل الخزين الحالي الذي لا يتجاوز 4 مليارات متر مكعب”.
ويختتم بالقول إن “الحلول ممكنة لكنها تتطلب رؤية مزدوجة، الأولى عبر تفعيل الاتفاقات الخارجية مع دول المنابع لتأمين الحصص المائية، والثانية تتعلق بالإدارة الداخلية للمياه وترشيد استخدامها بشكل علمي ومدروس، لأن استمرار الوضع الحالي يهدد الأمن المائي والغذائي للعراق بشكل مباشر”.
وفي بداية الشهر الحالي، وقّعَ في بغداد وزيرا خارجية العراق وتركيا على اتفاقية آلية إدارة المياه بينهما، ووصفاها بالاتفاقية الاستراتيجية، بهدف معالجة شُحِّ المياه الذي يشكو منه العراق، وقال رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، إن “الاتفاق سيكون أحد الحلول المستدامة لأزمة المياه في العراق، من خلال حزم المشاريع الكبيرة المشتركة التي ستُنفذ في قطاع المياه، لمواجهة وإدارة أزمة شحّ الموارد المائية”.
ورغم ذلك، أفاد مدير عام الهيئة العامة للسدود والخزانات في العراق وسام خلف، بأن تركيا لم تزد حصة العراق المائية وإن “الوضع كما هو عليه”. كما أوضح مدير سد الموصل، حاتم طيب، إنه لم تُلاحظ حتى الآن أي زيادة كبيرة في إطلاق المياه من الجانب التركي، وقال: “حالياً، تطلق لنا تركيا 200 متر مكعب فقط من المياه في الثانية”، مشيرا إلى أن الزيادة التي لوحظت في نهري دجلة والفرات تتراوح بين 10 إلى 20 متراً مكعباً فقط، “وهذا بسبب أمطار الأيام القليلة الماضية وليس بسبب زيادة المياه المطلقة من تركيا”.
سيول زاخو
من جهته، يفيد خبير الجيولوجيا رمضان حمزة، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إنّ موجة الأمطار الأخيرة هي الأولى لهذا الموسم، والعراق سيشهد موجات إضافية في نهاية تشرين الثاني نوفمبر الحالي وثلاث إلى أربع موجات مطرية خلال كانون الأول ديسمبر، مع تزايد كميات التساقط تدريجياً مع دخول فصل الشتاء، وإن كانت الفترات بينها متفاوتة زمنياً”.
ويضيف حمزة أنّ “العراق يعاني من فراغ خزني هائل وسوء إدارة مائية مزمن”، مبيناً أن “سد الموصل وصل إلى ما دون الخزين الميت، ما يعكس خطورة الوضع، خصوصاً في ظل غياب سدود حصاد المياه في مناطق الشمال والغرب والشرق، التي يُفترض أن تعمل على كبح سرعة جريان المياه والحد من الفيضانات التي حصلت في زاخو مثلا”.
ويشير إلى أنّ “التربة العراقية أصبحت هشة بعد مواسم الجفاف المتتالية، ما جعل الأمطار الأخيرة تؤدي إلى انجرافات كبيرة في التربة وتكدّس الأطيان داخل الأنهار، الأمر الذي فاقم الضغط على مجاريها”، موصيا من خلال دراسة قدّمها تخص منطقة زاخو، بـ”تنفيذ مشاريع لتهذيب نهر الخابور وإنشاء سدود غاطسة تتحكم بتدفق المياه قبل دخولها المدينة بنحو 15 كيلومتراً، بما يضمن رفع المناسيب وتوجيه المياه إلى مناطق آمنة أثناء الفيضانات”.
ويؤكد الخبير أن “على وزارة الموارد المائية استحداث هيئة عامة لإدارة السيول وإنشاء سدود حصاد مائي ذكية تعتمد نظم المعلومات الجغرافية لتحديد مناطق الخطر والسيطرة على مجاري الأنهار قبل نهاية كل صيف”، لافتاً إلى أن “ما يحدث من دخول المياه إلى المناطق السكنية يرجع إلى أن هذه المساكن شيدت تجاوزاً على المناطق المحرمة في الوديان والأنهار، وليست فيضانات بالأساس”.
ويخلص حمزة إلى أنّ “الدول المتقدمة تُصمّم منشآتها وفق الحسابات الهيدرولوجية الدقيقة لكل حوض نهر، فيما يمتلك العراق كوادر مؤهلة وتقنيات قادرة على تحديد مناطق السيول والتعامل معها، لكن سوء الإدارة جعل الخزانات تمتلئ بالأطيان والرواسب، ما أثّر حتى على كفاءة سد الموصل الذي تراكم الطين في قعره وبدأ يهدد طاقته الخزنية.
وسجّلت مناطق عراقية خلال بداية الأسبوع الماضي، ارتفاعاً ملحوظاً في منسوب نهر دجلة بعد هطول أمطار غزيرة رافقت سيولاً قادمة من الشمال، في تطور لافت أعاد ملف الموارد المائية إلى الواجهة، وشهدت منصات التواصل الاجتماعي تداول مقطع مصوّر أظهر تدفّق كميات كبيرة من المياه نحو مجرى النهر، ما انعكس على مستوى المياه بشكل واضح بعد صيف طويل تراجعت فيه المنابع وازدادت موجات الجفاف.
الجنوب الجاف
إلى ذلك، يكشف الخبير البيئي أحمد صالح نعمة، خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أنّ “الأمطار التي هطلت خلال الأيام الماضية لم تكن كافية لإنعاش القطاع البيئي في جنوب العراق، خصوصاً في ظل استمرار أزمة الجفاف التي تضرب الأهوار منذ سنوات”.
ويضيف نعمة، أن “المنخفضات الجنوبية في ميسان والبصرة والناصرية ما زالت تعاني من نقص حاد في المياه، إذ لم تُسهم التساقطات الأخيرة سوى بإنعاش طفيف للمناطق الشمالية التي استفادت جزئياً من دخول بعض المياه إلى الخزين المائي، بينما بقي الجنوب شبه جاف”.
ويشير إلى أن “مشاريع حصاد مياه الأمطار في عدد من المحافظات لا تزال متوقفة أو تعاني من نقص واضح في البنى التحتية، الأمر الذي جعل كميات كبيرة من المياه تستقر في الأراضي دون أن تُستثمر أو تُوجّه نحو الأنهر أو الأهوار”، موضحاً أن “ما يصل إلى الأنهر يكون في الغالب نتيجة طبيعية لطبوغرافية الأرض لا لجهود حكومية مخطط لها”.
ويردف أن “الأهوار في محافظات ميسان والناصرية والبصرة ما زالت في وضع بيئي خطير، إذ جفّت معظم المسطحات المائية وتحوّلت إلى أراضٍ قاحلة، فيما لا تزال القرى المجاورة تشتري المياه للشرب ولتربية الحيوانات”، مشدداً على أن “النظام البيئي في جنوب العراق يمرّ بأخطر مراحله، ويحتاج إلى تحرك عاجل لإنقاذه من الانهيار الكامل”.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!