ابحث في الموقع

كيف نصل بالعراق إلى المعادلة الصفرية؟

كيف نصل بالعراق إلى المعادلة الصفرية؟
كيف نصل بالعراق إلى المعادلة الصفرية؟
بقلم: كرم نعمة

اختار رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني مجلة “نيوزويك” لتقدمه كنموذج لعراق مقترح يقترض من المستقبل. في خدمات صحفية مدفوعة الأجر عندما وضعت صورته على غلاف المجلة في عددها الجديد الصادر بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية مباشرة. ومع ان تسويق السياسيين في إعلانات صحافية مدفوعة الثمن لعبة عتيقة لكنها لم تفض أبدا إلى نتائج تمس مصلحة المواطن في أي دولة من دول العالم. انها مجرد خديعة مكتوبة ومصورة لا تعيد صناعة السوداني كسياسي وطني ولا تحقق الوعود التي تعهد بها للعراقيين. لذلك نشك بأن السوداني من الجرأة والصدق بمكان ليكشف للعراقيين الثمن الحقيقي الذي دفعه من أموال العراقيين إلى المجلة مقابل هذا الإعلان السياسي!

ليس هذا الإعلان السياسي في تقديم السوداني كنوع من الحل للعراق المأزوم منذ 22 عاما، الأول من نوعه ولا نتوقع أن يكون الأخير، فالعراق يعيش الزمن الشاذ الذي لم يعشه في تاريخه الحديث. النظام السياسي أعاد إنتاج الطائفية والفساد، واستنزف الدولة والمواطن. لذلك فالانتخابات الأخيرة لن تغير شيئًا. الحكومة القادمة لن تفتح طريقًا نحو الوطنية أو الإصلاح. السياسة في العراق اليوم ليست مجرد صراع أحزاب، بل معضلة هوية وطنية، كما تريد أن تؤكدها نتائج الانتخابات الأخيرة بغض النظر عن الفساد الذي شابها وبيع الأصوات العلني.

لذلك لا حزب ولا كتلة ولا مجموعة مهما زعمت في اخلاصها لا تستطيع تبني مشروعا وطنيا حقيقيا. اللعبة السياسية القائمة لا تسمح لها بذلك لأنها بنيت للحفاظ على مصالح الفئات الضيقة، لا لخدمة الدولة أو المواطنين.

كل حزب يتحدث عن الوطنية، لكنه في العمق يراقب مصالحه الطائفية. كل كتلة سياسية تعد بالإصلاح، لكنها تمارس الولاء للممول، لا للوطن. السياسة العراقية ليست فن الممكن، بل فن التكييف مع الفساد.

إعادة انتخاب الفاسدين تكشف عن أزمة أخلاقية في المجتمع نفسه. صوت يُباع، ولاءات تُباع، والهوية الوطنية تُهمل. المدن مثل الديوانية، المثنى، الناصرية، ميسان وبابل تظهر مأساة المواطن العراقي: يعيش على هامش الخدمات والكرامة الإنسانية، ويبيع صوته لمن يسرق حقوقه.

العراق ينتخب الفاسدين. مواطنوه يبيعون الولاء السياسي كما يشترون سلعة في السوق. هل هو جهل؟ أم استسلام؟ أم عمى العاطفة والطائفية؟ هكذا أعادت الانتخابات الأخيرة تعريف الوطنية بأنها لم تعد قيمة، صارت ترفًا مفقودًا في العراق المزيف المستمر في سحق العراق الحقيقي.

الاختيارات الانتخابية تكشف عن خلل اجتماعي كبير: غياب الوعي بالمصلحة العامة، وارتفاع الولاءات المزيفة على حساب الوطنية الحقيقية. المواطن العراقي اليوم يختار بين الطائفية والولاءات الشخصية، ولا يفكر في الدولة أو مستقبلها.

في الناصرية، الناخبون أعادوا انتخاب كتلة معروفة بالفساد والإهمال، بينما المدينة تعاني من انقطاع الكهرباء، نقص الماء، وخدمات صحية شبه معدومة.

في الديوانية، الموازنات الحكومية تُستنزف قبل الوصول للمواطن، والطبقات الفقيرة تُجبر على بيع ولاءها مقابل بقاء لقمة العيش.

كل هذا يعكس انحطاط مفهوم الوطنية لصالح الولاءات الطائفية والمناطقية.

هذه الأمثلة ليست فردية، بل نمط يتكرر في كل المحافظات العراقية تقريبًا. الانتخابات تصبح مجرد أداة لإعادة إنتاج الفساد، وليس فرصة للتغيير.

العراق نموذج لخلل المؤسسات، حيث الانتخابات لا تنتج حكومات فعالة، بل مجرد آليات لتثبيت الطائفية والفساد. الديمقراطية العراقية تتحرك على أرضية مخادعة، لا على مفاهيم وطنية صلبة.

ذلك ما يصفه مارتن وولف الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز بأن الديمقراطيات تواجه انهيارًا إذا كانت العواطف السياسية أقوى من المؤسسات. العراق يظهر ذلك بوضوح: الخوف والغضب يتحكمان بالسياسة، والانتخابات تُستغل لتعزيز الولاءات، لا لبناء الدولة.

يكتب وولف “كلما كانت العواطف أقوى والطموحات أكثر احتواء، أصبح على الأرجح أن النظام الديمقراطي عُرضة للانهيار نحو الاستبداد”.

هكذا تعمل الديمقراطيات الهشة لإعادة إنتاج السلطة الفاسدة عبر آليات الانتخاب، ما يجعل المواطن جزءًا من المشكلة لا الحل.

والعراق ليس حالة فريدة، لكنه مثال صارخ لكيفية فشل الديمقراطية إذا غابت الوطنية والمساءلة، وتحولت الانتخابات إلى أداة لإدامة الفساد.

بعد 22 عامًا من الفشل والفساد السياسي، هناك ضرورة للوصول إلى ما نسميه المعادلة الصفرية: إعادة العراق الحقيقي ومنع العراق المزيف من الاستمرار.

العراق المزيف هو ما نشاهده: ميليشيات تسيطر على القرار، أحزاب طائفية تعيد إنتاج الفساد، وانتخاب المواطن للفاسد مرة أخرى.

العراق الحقيقي هو العراق الذي يختار مواطنيه بناءً على وطنية حقيقية، يرفض الولاءات الطائفية والمناطقية، ويستعيد الحق في مساءلة السياسي ومحاسبته.

سؤالنا الصادم: كيف سيصل العراق إلى المعادلة الصفرية؟

يحدث عندما يستعيد العراقي عراقيته الحقيقية، في ظل عراقية مزيفة مستمرة منذ أكثر من عقدين ويراد لها أن تستمر.

يحدث عندما يتحرر المواطن من الإملاءات الطائفية والمناطقية، ويعيد المساءلة والمحاسبة كمعيار للحكم على السياسي.

يحدث عندما يتحول الإعلام إلى مساحة للحق والجرأة، لا للولاءات والفساد.

يحدث عندما تتوقف السلطة عن استغلال خوف المواطن وغياب الوطنية.

المعادلة الصفرية ليست سهلة، لكنها الشرط الأول لبناء عراق حقيقي بعد عقود من الفشل، والوعود الكاذبة، والانتخابات التي كرّست مزيدًا من الطائفية والفساد.

العراق لا يحتاج فقط إلى حكومة جديدة، بل إلى إعادة تعريف المواطن العراقي نفسه، وهويته، ووطنيته. ونظرته الحقيقية للأحزاب المسيطرة على الدولة وثرواتها.

الانتخابات فرصة لإعادة الاعتبار، لكنها لن تكون كافية إذا استمر العراق المزيف في السيطرة على السياسة والمجتمع.

العراق الحقيقي سيولد حين يستعيد العراقي الوعي بذاته ووطنيته. عندها تكون الانتخابات ليس مجرد اختيار سياسي، بل اختبار للنضج الأخلاقي والوطني للمواطن العراقي.

إذا أراد العراق أن يخرج من مأزقه، فعليه أن يصل إلى المعادلة الصفرية: الدولة والمؤسسات والمجتمع يجب أن يعكسوا العراق الحقيقي، لا العراق المزيف.

هذا هو التحدي الأعظم بعد 22 عامًا من الفشل، والفرصة الوحيدة لإنقاذ مستقبل الوطن.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!