RSS
2025-12-22 23:35:07

ابحث في الموقع

هل فعلاً نحترم لغتنا العربية ؟

هل فعلاً نحترم لغتنا العربية ؟
بقلم: عدنان الدوسري

مرّ قبل أيام اليوم العالمي للغة العربية، فامتلأت المنصات بالخطب المنمّقة، والمنشورات المفعمة بالعاطفة، والاقتباسات الجاهزة عن جمال الضاد وخلودها. بدا المشهد وكأنه طقس سنوي محفوظ، نؤديه بإتقان، ثم نطوي صفحته ونعود، بلا حرج، إلى تجاهل اللغة في أدق تفاصيل حياتنا اليومية. لا خلاف نظريًا على أن العربية هي عماد تراثنا، ووعاء ثقافتنا، وجوهر هويتنا، لكن السؤال الذي نتجنّب مواجهته ظلّ حاضرًا، موجعًا: هل نحترم لغتنا حقًا؟

أقولها بوضوح، وربما يضيق بها بعض الأحبة، إن احترام اللغة لا يُقاس بعدد القصائد التي نكتبها في مدحها، ولا بعدد الأيام العالمية التي نحتفي بها، بل بمكانتها الفعلية في التعليم، والعمل، والشارع، والبيت، وفي الوعي الجمعي. وقبل أن نبرّر لأنفسنا، يحسن بنا أن نلقي نظرة عادلة على تجارب الآخرين.

في ألمانيا، تُدرَّس المناهج كافة باللغة الألمانية، من المراحل الأولى حتى أعلى المستويات الأكاديمية. لا يُخاطبك أحد بغيرها، ولا يُنتظر منك أن تندمج أو تعمل دون إتقانها. هناك، اللغة ليست ترفًا ثقافيًا، بل شرط وجود. وفي الصين واليابان، يشتد هذا الشرط أكثر؛ فحتى العامل الأجنبي لا يُسمح له بالعمل ما لم يمتلك الحد الأدنى من لغة البلد. اللغة في هذه التجارب ليست مجرد أداة تواصل، بل سياج للهوية، وضمان للسيادة الثقافية.

فلنعد الآن إلى أوطاننا، ولننظر في المرآة بلا مساحيق. في كثير من البيوت العربية، ما إن تحضر مساعدة منزل فلبينية، حتى تتغيّر لغة البيت بأكمله. الأب، والأم، والأطفال، ينتقلون إلى الإنجليزية أو الفلبينية، وكأن القاعدة انقلبت رأسًا على عقب: الكل يسير خلف الفرد، لا الفرد يندمج في الكل. يحدث هذا بصمت، بلا نقاش، وكأنه أمر بديهي، بينما هو في جوهره تراجع ثقافي ناعم، يتسلّل بلا ضجيج.

والمشهد ذاته يتكرّر في سوق العمل. جاليات هندية أو بنغالية تمارس أعمالها في بلادنا دون أي شرط جاد لإتقان اللغة العربية، على الرغم من أن أغلب الدساتير العربية تنص صراحة على أن العربية هي اللغة الرسمية للدولة. هنا تتجلّى المفارقة الفادحة: النصوص شيء، والواقع شيء آخر تمامًا.

أما الأكثر إيلامًا، فهو أننا نحن العرب، نتخاطب فيما بيننا بلغة غير لغتنا. الخطابات بين الشركات العربية تُكتب بالإنجليزية، والعروض التقديمية تُقدَّم بالإنجليزية، والسير الذاتية تُصاغ بالإنجليزية، حتى وإن كانت البيئة المهنية عربية خالصة. وكأن العربية صارت لغة لا تصلح للإدارة، ولا تعبّر عن الكفاءة، ولا تحتمل ثقل المشروع المهني.

لسنا هنا بصدد معاداة اللغات الأجنبية؛ فتعلّمها ضرورة حضارية لا جدال فيها. لكن ما يحدث هو استبدال اللغة الأم، وحصرها في مساحة العاطفة فقط، تصلح للشعر والحنين، ولا تصلح للعلم، ولا للعمل، ولا للتخطيط. وهذا أخطر أشكال الإقصاء، لأنه لا يُفرض علينا من الخارج، بل نمارسه نحن على أنفسنا.

اللغة التي لا نحترمها في مدارسنا، ولا نفرضها في مؤسساتنا، ولا نستخدمها بثقة في خطابنا المهني، لن يحترمها الآخرون مهما أكثرنا من التغنّي بها. اللغة التي نرفعها في المناسبات وننزل بها عن منصّة الحياة اليومية، تتحوّل إلى تراث ساكن، لا إلى كائن حيّ يتطوّر وينتج المعرفة.

فهل نحب العربية؟ نعم، نحبها في الخطب.

هل نفتخر بها؟ نعم، في الشعارات.

لكن هل نحترمها؟ الاحترام فعل، لا ادّعاء.

إن احترام اللغة العربية لا يعني الانغلاق، ولا رفض الآخر، بل يعني أن نضع لغتنا في مكانها الطبيعي: لغة تعليم، وإدارة، وعلم، وحياة. أن نطلب من القادم إلينا أن يتعلّم لغتنا، لا أن نتنازل نحن عنها. وأن نثق بها كما تثق الأمم الحيّة بلغاتها.

إلى أن نفعل ذلك، سيظل السؤال معلّقًا، قاسيًا، وصريحًا:

هل نحترم لغتنا حقًا… أم نكتفي بالتصفيق لها مرة واحدة في السنة؟


المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!