الكتابة الحقيقية والفاعلة حركة لا تؤمن بالسكون ولا تثق بمباركة جميع الاطراف لها في حال حصول تلك المباركة، وهذه الحركة الديناميكية التي تقود شهوة الكتابة الفاعلة هي التي تستدرج طاقة الاختلاف والنقد وبالتالي تستدرج طاقة الجدل، الشيء الذي يؤسس لثقافة حية ومؤثرة ومتحررة من معطف الركود والمفاهيم النهائية المغلقة.
هذا المسار الذي تختطه تلك الكتابة هو مسار تتمناه وتتشهاه أية ثقافة طموحة وراغبة في أن يكون لها دور في رسم بصمات التقدم لتحقق بذلك أثراً مهماً ومميزاً في خريطة الثقافة الانسانية.
لا شكّ أنّ تلك الكتابة القائدة لطاقة الجدل هي التي تجعل من فعل الكتابة فعلا مجدياً ومطلوباً وتحميه من الغرق في سطور التقليدية والاجترار والانشاء المستهلك، وبالتالي تحميه من أن يكون فعلا مفقوداً وتائهاً ومتلفعاً بلغة سهلة وراكدة هي في متناول أي شخص يريد أن يسوّد الصفحات فقط من دون رغبة الإتيان بشيء جديد ومختلف وإشكالي يكون مسوغاً مقنعاً للفعل الكتابي.
إنّ الكتابة التي لا تريد أن تضيف شيئا الى الذي قيل والتي لا تريد أن تختلف مع ما قيل أو تثيره أو تناقشه أو تنتقده، هي كتابة ساكنة بامتياز في أرض الفقدان، هي كتابة تقف في طابور واحد مع العدم الكتابي لأن استنساخ الشائع والمستهلك والفائض الكتابي هو عبء على عملية الكتابة الحقيقية الفاعلة ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن يكون مجدياً.
تلتذ تلك الكتابة المفقودة بالوقوف في منطقة الحياد، هي ليست مع شخص ما وهي أيضا ليست بالضد من شخص ما، هي تقوم بدور الوسيط الذي يريد ارضاء ومصالحة كل الاطراف والتوفيق بينها.
من الواضح جداً أنّ تلك الكتابة تخشى أن تتبنى نقداً أو اختلافاً او ابداءً لرأي معين لأنّ هذا يضعها حتما في سكة المسؤولية التي تستدرج بالتالي مواجهة صلدة مع النظم الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية السائدة، ولهذا فإنّ هذه الكتابة - بسبب خشيتها - تفضل اجترار الشائع المضمون العواقب على تبني المواقف الثقافية والنقدية الجريئة والمغامرات العقلية العميقة، لأن هذا يضعها - كما اسلفنا - على خطوط النار ضد المحرمات العتيقة.
تذكرني هذه الكتابة الحيادية - سالفة الذكر - بالعديد من الزنوج في اميركا - في عهد ابراهام لنكولن - عندما تم إقرار قانون تحرير العبيد، إذ أنّ العديد من الزنوج في تلك الفترة رفضوا قانون الحرية وتمسكوا بقيود عبوديتهم، لأن الحرية تجعلهم وجها لوجه أمام المسؤولية، مسؤولية حريتهم، ولهذا هم فضلوا - في وقتها - بؤس العبودية المضمون النتائج على ثروة الحرية التي لم تكن تعني لهم سوى مغامرة وعرة ومجهولة.
إنّ الكتابة الحيادية تجعل من التخلي عن حرية النقد والجدل طريقاً لاطمئنانها الفقير والكسول الذي لا يعلن عن نفسه إلاّ وهو محمّـل بالأغلال.