بقلم: علي مبارك
في التجارب الديمقراطية حول العالم، تُعتبر مقاطعة الانتخابات شكلاً من أشكال الاحتجاج السياسي الذي تلجأ إلية بعض القوى والأحزاب أو حتى فئات من الناخبين. وقد استُخدمت المقاطعة في دول مثل فنزويلا ولبنان وبعض دول أفريقيا كأداة للتشكيك في نزاهة النظام الانتخابي أو للضغط من أجل إصلاحات سياسية، وغالباً ما تتباين نتائجها بحسب السياق المحلي والدولي والجهات المقاطعة.
للمقاطعة أسباب متعددة، أبرزها الشكوك المتعلقة بنزاهة العملية الانتخابية أو عدم الثقة بالجهة المشرفة عليها، إلى جانب شعور بعض القوى بعدم تمثيلها بشكل عادل داخل البرلمان أو القانون الانتخابي. كما تشمل أسباباً أخرى مثل وجود السلاح والمال السياسي، وعدم تكافؤ الفرص، وحجم الإنفاق، أو الغياب النسبي للعدالة في المنافسة. وفي بعض الحالات، تُستخدم المقاطعة كأداة ضغط شعبي أو رمزي لإظهار رفض النظام أو سياساته، ما يجعلها أداة سياسية واجتماعية متعددة الأبعاد تختلف أهميتها وتأثيرها بحسب السياق المحلي والدولي.
وفي بعض البلدان التي لا تشترط حداً أدنى لنسبة المشاركة، لا تؤثر المقاطعة قانونياً على شرعية الانتخابات أو على شرعية النظام السياسي، لكنها تظل وسيلة فاعلة للضغط والتعبير عن رفض السياسات أو الإطار السياسي القائم. ومع ذلك، فإن غياب شرط النسبة لا يعني أن المقاطعة بلا جدوى؛ إذ يمكن للقوى المقاطعة أن تتحول إلى معارضة نشطة خارج البرلمان، مستخدمةً الإعلام، والقضاء، والشارع، وسائر الأدوات المتاحة للتأثير في العملية السياسية.
في هذا السياق، تبرز حالة التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر، الذي أصرّ على مقاطعة الانتخابات بعد أن سحب نوابه الـ 73 من البرلمان إثر انتخابات 2021، رغم أنهم كانوا الكتلة الفائزة الأولى. ويُعد هذا الانسحاب سابقة في تاريخ العملية السياسية العراقية بعد عام 2003، حيث كان التيار الصدري في موقع يؤهله لتشكيل الحكومة، وقد دعا أنصاره إلى المشاركة القوية والفاعلة في تلك الانتخابات.
ورغم ان بعض الأحزاب الناشئة أعلنت هي الأخرى مقاطعتها، إلا أن مقاطعة التيار الصدري لا يمكن مقارنتها بأي مقاطعة أخرى. فالتيار يمتلك ما لا يمتلكه غيرة: رمزية القائد، التنظيم العالي والصارم، الطاعة والولاء، والقدرة على الحشد والتأثير. ولهذا، من يراهن على أن مقاطعة التيار ستمر بلا أثر، فإنه واهم.
إن مقاطعة التيار الصدري لا يمكن النظر إليها بذات المعايير التي تُطبَّق على أي حزب أو تيار سياسي آخر. فالتيار الصدري أوسع من مجرد تنظيم سياسي؛ فهو تيار ديني واجتماعي وسياسي ووطني في آن واحد، يمتلك قاعدة جماهيرية متماسكة وقدرة فريدة على التعبئة والنزول الى الشارع. وهذا ما يجعل مقاطعته مختلفة نوعياً، تحمل خصوصية خاصة، وتضع النظام السياسي أمام تحديات غير مسبوقة.
لقد شهدت العملية السياسية العراقية في السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في المعارضة، سواء من قِبل الشارع أو من بعض القوى السياسية. فمنذ احتجاجات تشرين 2019، مروراً بالانتخابات المبكرة، وصولاً إلى مقاطعة التيار الصدري، بات واضحاً أن النظام السياسي يعاني من اتساع الفجوة بينه وبين المجتمع. وهذه الفحوة لا تُقاس فقط بنسبة المشاركة في الانتخابات، بل أيضاً بتراجع ثقة المواطنين بقدرة النظام على الاستجابة لمطالب الإصلاح والتغيير.
المتابع للشأن السياسي العراقي يدرك أن التيار إذا أراد شيئاً فإنه غالباً ما يحصل علية، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: تشريع قانون تجريم التطبيع، وإقرار قانون الأمن الغذائي، واعتماد عطلة عيد الغدير، وكلها شواهد حديثة على قدرة التيار على فرض إرادته داخل البرلمان وخارجه.
الخاتمة
إن مقاطعة التيار الصدري لا يمكن قراءتها كخطوة عابرة أو مجرد انسحاب من سباق انتخابي، بل هي تحوّل استراتيجي من موقع الفائز الأول في انتخابات 2021 إلى موقع المعارض المقاطع خارج البرلمان. وهذا التحوّل يعكس معادلة جديدة في الديمقراطية العراقية، إذ يضع النظام السياسي أمام اختبار صعب بين قدرته على الاستمرار رغم غياب أحد أبرز أركانه، وبين الحاجة إلى مراجعة قواعد اللعبة الانتخابية والسياسية برمّتها. ومع اقتراب الاستحقاقات المقبلة، يبقى السؤال الأهم: هل ستظل المقاطعة ورقة ضغط بيد التيار الصدري لإعادة التموضع، أم تتحول إلى خيار دائم يغيًر شكل التوازنات داخل النظام السياسي العراقي؟
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!