ابحث في الموقع

هل المقاطعة حلّ؟

هل المقاطعة حلّ؟
هل المقاطعة حلّ؟

بقلم: د. جاسم حسين الخالدي

 

بين فترة وأخرى، ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في العراق، ترتفع أصوات تدعو إلى مقاطعتها، وكأن الامتناع عن المشاركة هو الطريق الأسلم لإحداث التغيير المطلوب. غير أن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا: هل المقاطعة بالفعل حلّ واقعي؟ أم أنها مجرّد موقف احتجاجي قد يُسهم في تكريس الواقع نفسه بدل تغييره؟.

من حيث المبدأ، المقاطعة ليست أمرًا سلبيًا بالكامل. فهي تُعدّ تعبيرًا مشروعًا عن السخط الشعبي، ورسالة واضحة إلى الطبقة السياسية بأن الثقة قد تآكلت. بل إنها قد تتحوّل، إذا كانت واسعة ومنظمة، إلى ضغط حقيقي يحرج السلطة أمام الداخل والخارج، ويكشف هشاشة الشرعية التي تستند إليها. بهذا المعنى، يمكن النظر إلى المقاطعة بوصفها وسيلة من وسائل الاحتجاج السلمي.

لكن الوجه الآخر للقضية لا يقل أهمية. فالانتخابات، مهما كانت نسبة المشاركة فيها، ستفرز برلمانًا جديدًا يستند إلى النصوص الدستورية والقانونية النافذة. وهذا يعني أن القوى السياسية المهيمنة ستعود لتقاسم المقاعد والسلطة حتى لو كانت نسبة المشاركة ضعيفة جدًا. عندئذٍ تتحول المقاطعة إلى فراغ يملأه الآخرون، وتصبح وسيلة غير مقصودة لإعادة إنتاج ذات الطبقة السياسية التي لها جمهورها الخاص.

من هنا يتضح أن المقاطعة، وإن كانت مشروعة من حيث المبدأ، ليست كافية وحدها. التغيير يحتاج إلى مزيج من الوسائل: مشاركة واعية في الانتخابات تمنح الفرصة للوجوه الجديدة أو للقوى الإصلاحية مهما كان حضورها محدودًا، وحراك مدني متواصل يمارس الضغط على المؤسسات، إلى جانب جهود حقيقية لإصلاح القوانين الانتخابية وتطوير عمل المفوضية. فهذه المسارات، إذا اجتمعت، يمكن أن تفتح بابًا أمام التحوّل السياسي المنشود.إن المقاطعة بحد ذاتها لا تصنع تغييرًا، لكنها قد تكون جزءًا من أدوات التغيير إذا ارتبطت برؤية واضحة وخطوات عملية بديلة.

أما إذا بقيت مجرد عزوف فردي أو جماعي بلا أفق، فإنها لا تعدو أن تكون استسلامًا صامتًا، يفسح المجال للقوى التقليدية أن تواصل إمساكها بمفاصل الدولة بلا منافسة حقيقية.إن التجارب السياسية في أكثر من بلد تؤكد أن الإصلاح لا يأتي دفعة واحدة، بل عبر تراكم طويل وصبر متواصل. والمجتمع الذي يريد أن يغيّر لا يستطيع أن يغيّب صوته ثم ينتظر من الآخرين أن ينطقوا باسمه. فالمشاركة، مهما بدت محدودة الأثر، قد تكون اللبنة الأولى في بناء مختلف، بينما المقاطعة المطلقة قد تبقي الأبواب موصدة أمام أي احتمال للتغيير.

وهكذا، يبقى الجواب: المقاطعة ليست حلًّا نهائيًا. إنها مجرد وسيلة احتجاج، إما أن تُستثمر في مشروع وطني واضح، أو تتحوّل إلى فراغ يخدم من يُفترض أن تكون ضدهم.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!