بقلم : د. خالد قنديل
يتذكر العراقيون جيدًا، الأثمان الباهظة التي دفعتها الدولة بمكوناتها ومؤسساتها ومواطنيها على مدار عقود، نتيجة النزاعات الداخلية والحروب الخارجية، تلك التجارب كان لها أثر عميق في الوعي الجمعي العراقي، إذ يعبر العراقي بالذاكرة المتقدة فوق شريط اللهب المضيء على الحرب الطويلة مع إيران في الثمانينيات، وحرب الخليج وما تبعها من حصار قاسٍ في فترة التسعينيات، حتى إسقاط النظام السابق عام 2003، وما تلاه من دخول البلاد دوامة العنف والانقسامات، ومن هنا صار نُصب عيني ووعي كل عراقي أسباب كل هذه المحنة الطويلة، ولتفرض التجربة مسارين من مسارات التأمل الإنساني، أولهما اللحاق بركب الاستقرار، مع الخشية والترقب لمعادلة مفادها أن كل استقرار قصير الأمد يُخشى أن يُتبع بنزاع جديد، ومن ثم العودة إلى المربع صفر حيث دوامة الصراع واللا أمان. والثاني هو التمسك بالأمل وسد جميع الثغرات التي يمكن أن تفتح أبوابًا لأزمات محتملة، سواءٌ عبر الملفات الداخلية أو الخارجية.
وعلى الرغم من تغلب العراق على أزماته السابقة والتهديدات التي أحاطته بحكم ثقله في منطقة الشرق والعالم، فإن ما يشهده العراق خلال هذه الفترة يمثل تغيرًا نوعيًا في التهديدات الخارجية لبلاد الرافدين، إذ تتعاظم مخاوف العراقيين من انجراف الدولة في صراح مسلح لا ناقة لهم فيه ولا جمل، بعد تزايد التحذيرات من احتمال اندلاع مواجهة جديدة بين إيران والكيان المحتل، ولقد شهد الجميع تأثير حرب الأيام الاثني عشر الأخيرة، على الاقتصاد الداخلي الذي أصيب بشلل، جراء إغلاق المجال الجوي بالكامل، واضطراب السوق العراقي، وتضرر حياة المواطنين بشكل واضح، ما يعني أن البلاد دفعت أثمانًا قاسية في هذه الفترة، نتيجة تداعيات الحرب، على الرغم من أن الأنظار كانت متركزة على غزة ولبنان. هذه المخاطر التي تدفعها حروب موازية وعلاقات شائكة تصطدم فيها المصالح والتطلعات الخارجية بين إيران وأمريكا وإسرائيل وتركيا، ليست رهن قياس القدرات الذاتية للعراق، فقد انتبهت الدولة في ثوبها الجديد، إلى مسألة البناء الشامل، الذي يضمن صورة متكاملة مثلى للدولة القوية القادرة على الدفاع عن سيادتها، وقد عززت وزارة الدفاع العراقية من قدرات الجيش الوطني عبر برنامج تسليحي مواكب لاحتياجات المرحلة، ومستشرف للتحديات المستقبلية، إذًا فإن قصة القدرات الذاتية أمر مفروغ منه في ظل حكومة نابهة، لكن تظل معضلة وجود ميلشيات مسلحة، سواء أكان لها ارتباط بالخارج من عدمه، حجر عثرةٍ لابد من إزالته بطريقة مثلى، بحيث لا يعمل بمعزل عن الدولة، ومن هنا كان لابد أن يضع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الكرة في ملعب هذه الفئات، وتخييرها بين أمرين إما الانخراط بالمؤسسات الأمنية أو الانتقال للعمل السياسي، وهذه معادلة منضبطة ومتوازنة، لا تُحي أحدًا، كما لا تقبل الانفلات خارج الإطار القانوني للدولة، أي معادلة منطقية تضع حدًا فاصلًا بين منطق الدولة ومنطق القوة، حيث لا تليق الازدواجية في الولاء، كما لن تكون هناك قطيعة مع الفصائل التي قد تكون عنصرًا يضيف لمفهوم بناء الدولة، هذه المعادلة ليست وليدة مصادفة، وإنما تأتي في إطار مشروع توازن واضح وملموس سعى السوداني لترسيخه منذ توليه رئاسة الحكومة، ويبقى هذا النموذج الموضوعي في حال إخلاص الجميع للعراق الوطن الواحد، مرهوناً بمدى استعداد الفصائل بأن تقبل أن تخضع لمنظومة القرار الأمني الرسمي، ولتكون "الشرعية المسلحة" كما عرفها السوداني على أساس وطني لا غير، وأن تكون الدولة وحدها صاحبة القرار في استخدام القوة، لا أي مرجعيات أخرى إقليمية أو دينية أو سياسية، ولعل هذه الخطوة إذا تحققت وأعتقد أن ذلك سيحدث وفق ما ما شهدناه من عراق بملامح مختلفة مبشرة، سيسهم بشكل كبير مع نجاح الانتخابات التشريعية المقبلة في قطع أشواط كبيرة في مسارات التنمية، ببال هادئ، عبر تأكيد سيادة العراق الوطن الذي يشكل علاقاته الخارجية المتوازنة بثقله التاريخي وفي إطار من الندية.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!