تشهد الساحة السياسية العراقية موسمًا انتخابيًا جديدًا، يحمل في ظاهره وعودًا بالتغيير والإصلاح، لكنه في جوهره لا يختلف عن الدورات الانتخابية السابقة التي عاشها العراق على مدى أكثر من عقدين. فالتجربة التاريخية والواقع السياسي يشيران إلى أن هذه الانتخابات، رغم حماسة البعض وترويج البعض الآخر، لن تُحدث التغيير الجذري المنشود الذي يتطلع إليه المواطن العراقي.
كانت انتخابات السنوات الأربع الماضية هي انتخابات ما بعد حرب داعش، وقد جرت في وقت كان فيه وباء كوفيد-19 قد أصاب العالم بأسره وشل حركته. أما الانتخابات هذه المرة فتُجرى بعد انتهاء جائحة كورونا، وبعد حدوث عدة تغييرات سياسية وعسكرية واقتصادية واضحة وكبرى على الساحة الإقليمية والدولية. فهناك الحرب الروسية الأوكرانية التي لا تزال مستمرة حتى الآن، والحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران والتصعيد المتبادل بينهما، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا وانهيار حكمه بعد أكثر من خمسة عقود من حكم عائلته، واشتعال الحرب الأهلية الطاحنة في السودان وما خلفته من كوارث إنسانية، والحرب التدميرية الإسرائيلية على غزة وما نتج عنها من دمار هائل وخسائر بشرية فادحة، وعودة دونالد ترامب المفاجئة للفوز في الانتخابات الأمريكية وما يحمله ذلك من تداعيات على السياسة الخارجية الأمريكية، بالإضافة إلى العديد من التغيرات المناخية الخطيرة وتأثيراتها على الاقتصاد العالمي والأمن الغذائي.
لذلك، ومن دون أدنى شك، يجب النظر إلى هذه الانتخابات الحالية بمنظور مختلف تمامًا عن انتخابات الدورة السابقة، حيث إن السياق الإقليمي والدولي قد تغير بشكل جذري. ومن الضروري أن تكون القوى السياسية قد أدركت وفهمت جيدًا أنه لا يوجد أمامها أي حل أو خيار آخر سوى المراجعة الذاتية الجادة والصادقة، والقيام بإصلاحات حقيقية وجذرية في مختلف مجالات إدارة الدولة ومؤسساتها، وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين، ومكافحة الفساد الإداري والمالي، وتعزيز الشفافية والمساءلة في جميع مفاصل الحكومة.
لكن المتابع الدقيق الذي يراقب العملية الانتخابية عن كثب سيدرك بسهولة أن التوقعات بحدوث تغيير جذري أو ملحوظ تبقى ضئيلة رغم كل هذه المتغيرات الإقليمية والدولية. فبالاستناد إلى الانتخابات التي جرت في العراق خلال الثلاثة والعشرين عامًا الماضية، لا يُتوقع أن تُحدث هذه الانتخابات أيضًا أي تغيير حقيقي يستحق الذكر أو يُغيّر من واقع الحال. السبب واضح: القوى السياسية الكبرى ستستمر في السيطرة على المشهد البرلماني كالمعتاد، وستواصل انتهاج سياساتها ذاتها وتجدد مشاركتها في تشكيل الحكومة المقبلة. فالتجربة التاريخية تُثبت أن النتائج تبقى متشابهة، والوجوه قد تتبدل قليلًا، لكن السياسات والممارسات تظل على حالها، في دورة متكررة من خيبات الأمل المتراكمة. لذا، ليس مستغربًا أن يفقد كثيرون الأمل ويصلوا إلى قناعة مفادها أن العملية الانتخابية برمّتها مصممة سلفًا ومفصّلة على مقاس المتنفذين.
وتعكس الأجواء السائدة هذا الواقع المحبط، حيث تتسم الانتخابات البرلمانية العراقية في هذه الدورة بضعف المشاركة الشعبية والحماس الجماهيري، على الصعيدين العام والإقليمي في كوردستان، حتى في المناطق المتنازع عليها ذات التنوع الإثني. ولم تُسجَّل أية مظاهر حماسية خلال فترة الدعاية الانتخابية المحدودة، بل ساد الفتور واللامبالاة في معظم المحافظات. يتطلب الأمر دراسة معمقة لأسباب هذا العزوف وتحليله: هل يعود ذلك إلى تآكل الثقة الشعبية بالعملية الانتخابية نتيجة التجارب المريرة السابقة؟ أم توجد أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى تدفع الناخبين للابتعاد عن صناديق الاقتراع؟ هل توصل المواطنون إلى قناعة بعدم جدوى الخطاب السياسي الحزبي وفراغه من المضمون؟ أم أن الأمر مرتبط بالمتغيرات الإقليمية والصراعات المحلية التي تُلقي بظلالها على المشهد الداخلي؟
في دول العالم الحرّ، تُجرى الانتخابات لتبديل الحكومات وتداول السلطة، حيث يذهب الحاكم ويأتي المعارض في دورة ديمقراطية طبيعية تُجدد شرعية النظام وتُحقق التغيير المنشود. أما في بلدنا، فالمشهد معكوس تمامًا: السلطة راسخة كالجبال الشمّ، لا تتزحزح ولا تتغير، تُبدّل الوجوه أحيانًا لكن تُبقي على الجوهر والعقلية ذاتها، بينما المعارضة هي التي تدور في فلك التبدّل والتلاشي. ونرى هذه الحقيقة في الساحة السياسية في إقليم كوردستان بوضوح، حيث تتجلى بصورة أكثر حدة وسطوعًا.
تنمو قوة معارضة وتشتدّ، تملأ الساحات بالهتافات والوعود، وتحشد الجماهير خلف شعارات التغيير والإصلاح، حتى إذا اقتربت من عتبة التأثير الحقيقي، تبدأ في الذبول والانكماش، فتُستهلك بين مطرقة القمع وسندان الإغراءات، أو تتمزّق من الداخل بفعل الخلافات والانشقاقات والصراعات على المناصب والمكاسب الضيقة. ثم تتلاشى كأنها لم تكن، لتفسح المجال لقوى معارضة جديدة تسير على نفس الدرب المحفوف بالآلام، وتنتهي بذات المصير المحتوم: الإقصاء، أو الاحتواء، أو الاندثار والطي في صفحات التاريخ المنسية.
في المقابل، ما يطمح إليه المواطنون من الأحزاب والقوى السياسية واضح وبسيط: تحقيق السلم الاجتماعي، وتوفير حياة مستقرة بعيدة عن الأزمات والمشاكل الإدارية والسياسية والاقتصادية التي تُثقل كاهلهم يوميًا وتحرمهم من أبسط مقومات العيش الكريم. كما يتطلعون إلى إرساء العدالة الحقيقية والشفافية في جميع مؤسسات الدولة، وإصلاح منظومة الحكم بشكل جذري وشامل، بحيث لا يستطيع أي شخصية سياسية نافذة أو مسؤول فاسد العبث بمصير الناس أو ممارسة الفساد والمحسوبية وفق أهوائه الشخصية ومصالحه الضيقة.
يجب أن ترتقي الخدمات العامة إلى مستوى يُنهي شكاوى المواطنين المتكررة ويُعيد إليهم ثقتهم بمؤسسات الدولة. من الضروري معالجة الأزمات المزمنة التي باتت جزءًا من المعاناة اليومية: أزمة المياه الصالحة للشرب التي تهدد الصحة العامة، وانقطاع التيار الكهربائي المستمر الذي يُعطّل الحياة ويشلّ الاقتصاد، وتدهور البنية التحتية من طرق وجسور ومرافق عامة، إضافة إلى تفاقم البطالة التي تدفع الشباب نحو اليأس والهجرة. هذه ليست مطالب كمالية، بل حقوق أساسية يستحقها كل مواطن في وطنه، ولا يمكن للعملية السياسية أن تكتسب أي مصداقية طالما بقيت هذه المشكلات الحياتية دون حلول جدية وعملية.
الشعب يريد تغييرًا حقيقيًا وجذريًا في بنية مؤسسات الدولة، في نظام الإدارة والعقلية التي تحكمها. المواطنون سئموا من تردي الخدمات العامة وانهيارها، ومن الصراعات الحزبية والطائفية والقومية التي تُمزّق النسيج الاجتماعي، ومن غياب العدالة وانعدام الشفافية، ومن تكرار الوجوه السياسية ذاتها على مدى عقود دون تغيير. سئموا من غياب المساءلة لأولئك الذين أساؤوا استخدام السلطة أو اتُهموا بالفساد ولم تطلهم يد العدالة قط. هذه حقائق لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها، إذا كان هناك نية صادقة حقًا لدفع البلاد نحو الأمام وضمان استقرارها واستدامة نهضتها.
والتغيير الحقيقي يكمن في محاسبة المقصرين والمتورطين في الفساد والفضائح الإدارية والسياسية، وتقديمهم إلى العدالة دون استثناء أو محاباة. فالإصلاح الفعلي لا يتحقق بمجرد الشعارات والوعود، بل يتطلب إرادة صادقة لاجتثاث جذور الفساد من المؤسسات الحكومية، وإرساء مبادئ الشفافية والمساءلة في جميع مستويات الإدارة. كما يستوجب وضع آليات رقابية صارمة تضمن عدم تكرار الانتهاكات، وتفعيل دور الأجهزة الرقابية والقضائية لتكون حارسة حقيقية للمال العام والمصلحة الوطنية، إلى جانب تمكين المواطنين من المشاركة في عملية المراقبة والمحاسبة من خلال تعزيز حرية الصحافة ومنظمات المجتمع المدني.
لا مفاجآت متوقعة في هذه الانتخابات، أي بمعنى أن فرص التغيير الحقيقي ضئيلة جدًا في ظل غياب المراجعة الجادة للسياسات الإدارية وإعادة هيكلة مفاصل الدولة الأساسية. فالانتخابات التي تُجرى ضمن نفس المنظومة الفاسدة، ودون إصلاح حقيقي للقوانين الانتخابية، وفي غياب رقابة فعّالة ومستقلة، لن تؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الواقع ذاته بوجوه قد تختلف شكلًا لكنها تتشابه مضمونًا. التغيير الجذري يتطلب إصلاحًا شاملًا يبدأ بمحاربة الفساد، وتفعيل مبدأ الفصل بين السلطات، وضمان استقلالية المؤسسات الرقابية والقضائية، إلى جانب بناء ثقافة المحاسبة والشفافية في جميع مؤسسات الدولة.
باختصار، يريد المواطنون دولة مؤسسات لا دولة أشخاص، حيث يسود القانون ويُحاسب الجميع دون استثناء أو محاباة، وحيث تُصان كرامة الإنسان وتُحفظ حقوقه الأساسية بعيدًا عن المزايدات الحزبية والشعارات الجوفاء. هذا هو التغيير الحقيقي الذي ينتظره الشعب، لا مجرد تبديل وجوه مع بقاء العقلية والممارسات ذاتها.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!