في المعادلة الانتخابية يقف الناخب والمرشح طرفين لصناعة المستقبل، لكنّ التوازن بينهما ظل مرهوناً بميزان الوعي - ذلك الميزان الذي أدركت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف مبكراً أنها مسؤولة عن حمايته. فمنذ سقوط النظام السابق، اختارت المرجعية موقعها الطبيعي خارج لعبة النفوذ، لكنها لم تغب يوماً عن الشأن العام بوصفه ساحة مسؤولية أخلاقية لا ساحة صراع.
ومع كل دورة انتخابية، كانت المرجعية تُعيد التأكيد على أن السياسة بلا بوصلة أخلاقية تتحول إلى سباق مصالح لا إلى مشروع دولة. ولهذا كانت توصياتها للناخبين واضحة - لا تمنحوا أصواتكم لمن ثبت فساده أو عجزه، ولا تستجيبوا لإغراء الشعارات ما لم يرافقها سجل من النزاهة والعمل. كان ذلك صوت الضمير الذي يحاول إعادة السياسة إلى معناها الأول: خدمة الناس لا استخدامهم.
لكنّ دور المرجعية بدا أكثر حساسية في محطة مفاوضات تشكيل الحكومات بعد كل انتخابات. فحين كانت الكتل تنشغل بخرائط النفوذ، وبمعادلات “أصواتنا مقابل ماذا من المقاعد أو الوزارات”، كانت المرجعية العليا تذكّر الجميع - بلا مواربة - أن الشرعية لا تُنتزع في غرف التفاوض المغلقة، بل تُبنى في الميدان مع الناس.
لم تتدخل المرجعية لترجيح طرف على آخر، لكنها كانت تضع معياراً ثابتاً أمام الجميع: الحكومة التي لا تنتج خدمةً ولا أمناً ولا كرامة للمواطن لا قيمة لولادتها مهما تعددت تفاهمات ما وراء الستار.
وقد كان امتناع المرجعية عن استقبال بعض السياسيين بعد إخفاق الحكومات رسالة واضحة: أن التفاوض لا يكتسب شرعيته من كثرة المشاركين فيه، بل من صدق النية في الإصلاح. إنها دعوة مبطنة لأن تدرك القوى السياسية أن مقاعدها لا تُحسم بالمساومات، بل برضا الناس أولاً، وأن تشكيل الحكومة ليس صفقة بل عهدٌ أمام الله والوطن.
ولم تتوقف المرجعية عند حدود النقد، بل واصلت توجيه الرأي العام - الناخبين تحديداً - لتثبيت قاعدة وعي تجعل الصوت الانتخابي فعلاً إصلاحياً لا مجاملة عاطفية. كانت تقول لهم إن الاختيار مسؤولية شرعية، وإن المشاركة الواعية هي أول بند في عقد الإصلاح. وبذلك وضعت المرجعية قاعدة صلبة أمام مفاوضات ما بعد الانتخابات - قاعدة تقول إن أي حكومة لا تستند إلى وعي الناخب لن تستقر، وإن أي تفاهمات لا تعبّر عن إرادة الناس تتحول عبئاً على الدولة لا رافعة لها.
وهنا يتجلى الفارق بين موقفٍ سياسي وموقفٍ قيمي. فالمرجعية لم تُرد أن تكون لاعباً في تشكيل الحكومة، بل وجداناً يقيس صدقية اللاعبين. لم تساند كتلة، لكنها حمت المعايير. لم تدعُ إلى اسم، لكنها ثبّتت مبادئ. ولهذا ظلت موقعاً فوق الانقسامات - مخاطِبة ضمير الأمة لا رغبات المتفاوضين.
إن من يتأمل مسار السنوات الماضية يدرك أن خطاب النجف الأشرف كان أشبه بحصانة وعيٍ في زمن المساومات، وأنه كان يقول للجميع: الإصلاح يبدأ من قاعدة الناس لا من قمة السلطة، وأن الحكومة التي تُبنى على الوعي تُثمر عملاً، بينما الحكومة التي تولد من مقايضات الكتل تبقى أسيرة أزماتها.
هكذا بقيت المرجعية الدينية العليا ضمير الناخب وحارس الوعي العام - تراقب المشهد من علٍ دون أن تنسحب منه، وتوجهه دون أن تستولي عليه، لتؤكد أن نهضة الدولة تبدأ حين يستيقظ ضمير الأمة، وحين يدرك السياسي أن قوة السلطة لا تأتي من مائدة التفاوض بل من خدمة الناس.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!