لم يعد تأخر صرف رواتب المتقاعدين مجرد إجراء إداري يمكن تخطيه بسهولة، بل حالة تتكرر بشكل شبه شهري، تضع أعضاء هذه الشريحة تحت ضغوط معيشية خانقة، وشعور متزايد بالقلق، ما يفتح الباب أمام موجة واسعة من التساؤلات عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التلكؤ. وفيما قللت اللجنة المالية النيابية من أثر هذا التأخير، مؤكدة عدم المساس بصندوق التقاعد، عبّر مختصون عن مخاوفهم من شحة السيولة المالية في البلاد، منتقدين غياب الخطط الفعالة لتعضيد موارد الصندوق بالاستثمارات المتنوعة.
وبالرغم من مرور أيام على انتهاء شهر آب الماضي، إلا أن وزارة المالية لم تعلن إطلاق رواتب المتقاعدين، إلا يوم أمس الجمعة، بعد حالة من القلق سادت الشارع، تخللتها شكاوى عبر منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وصولا إلى البرامج التلفزيونية التي خصصت حلقات كاملة لرصد معاناتهم.
وأعلنت وزارة المالية يوم أمس، مباشرتها بإجراءات تمويل رواتب المتقاعدين المدنيين والعسكريين، داعية المتقاعدين الذين تصلهم رسائل نصية إلى “مراجعة فروع المصارف أو منافذ الصرف الآلي في بغداد والمحافظات لاستلام رواتبهم”.
وفي هذا السياق، يقول عضو اللجنة المالية النيابية، معين الكاظمي، إن “تأخر صرف رواتب المتقاعدين خلال الأيام الماضية يعود إلى خلل فني جرت معالجته بالتنسيق بين وزارة المالية وهيئة التقاعد الوطنية”.
ويوضح الكاظمي، أن “وزارة المالية اعتادت على إطلاق تمويل الرواتب، اعتبارا من العشرين من كل شهر بشكل تدريجي، إلا أن بعض الإجراءات التقنية أخّرت عملية الصرف هذه المرة، سيما وأن هيئة التقاعد تسلّمت 500 مليار دينار من صندوق التقاعد، إضافة إلى تريليون دينار من وزارة المالية، حيث سيتم صرف الرواتب مطلع الأسبوع المقبل”.
وكانت أزمة مشابهة قد وقعت قبل شهر، حين تأخر صرف رواتب المتقاعدين لبضعة أيام، ما أثار موجة واسعة من الاستياء، وفي حينها، أرجعت وزارة المالية السبب إلى تزامن موعد الصرف مع عطلة نهاية الأسبوع للبنوك الخارجية المسؤولة عن إرسال التحويلات المالية الناتجة عن مبيعات النفط، مؤكدة أن عمليات التحويل لا تُنفذ إلا في الأيام الرسمية، وأن الرواتب مؤمّنة بالكامل حتى نهاية السنة المالية.
وبالتوازي، أثار موضوع مصير “صندوق التقاعد” الكثير من الجدل مؤخرا، بعد صدور قرار حكومي بإلغاء نظامه السابق لسنة 2008 واستبداله بنظام داخلي جديد لهيئة التقاعد، وهو إجراء دفع البعض إلى التحذير من أن أموال الصندوق قد تصبح مرهونة بتخصيصات وزارة المالية ومرتبطة مباشرة بواردات النفط.
غير أن مسؤولين ونوابا، من بينهم معين الكاظمي، شددوا على أن الصندوق لم يُلغَ فعليا، حيث يؤكد الأخير بأن “ما جرى هو إعادة تنظيمه، وأن التوقيفات التقاعدية التي تُستقطع من رواتب الموظفين ما زالت تُودع فيه، مع استمرار وزارة المالية في دعمه شهريا بما يقارب التريليون دينار لتغطية الالتزامات”.
وبالرغم من محاولات الطمأنة الرسمية، إلا أن خبراء اقتصاديين، يرون أن المشكلة أعمق من مجرد “خلل فني”؛ إذ يؤكد الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه، من جهته، أن “الواقع يظهر مؤشرات مقلقة توحي بوجود شح فعلي في السيولة بالدينار، بما يخالف إعلان وزارة المالية عن توفر السيولة المالية”.
ويعزو عبد ربه، ذلك التأخير إلى عوامل عدة من بينها “بطء تحويلات الدولار إلى الدينار، واحتفاظ المواطنين والمستثمرين بكميات كبيرة من الأموال الـCash خارج الجهاز المصرفي، إضافة إلى الاعتماد المفرط على عائدات النفط، كلها عوامل تضعف انتظام الصرف”.
ويتابع أن “توسع قائمة المتقاعدين سنويا من دون وجود مصادر تمويل مستدامة لصندوق التقاعد، فضلا عن تركّز الإنفاق العام على الرواتب والدعم، يزيد من هشاشة الموازنة التشغيلية، ويجعل الدولة أكثر عرضة للأزمات عند أي اضطراب في أسواق النفط”.
ويدعو الخبير الاقتصادي، في ختام كلامه كلامه إلى حلول عملية لهذه المشكلة، تتمثل في “توسيع قاعدة التمويل لصندوق التقاعد، وتحفيز المواطنين على إيداع أموالهم في البنوك لضمان دوران السيولة، مع ضرورة التنسيق بين وزارة المالية والبنك المركزي لوضع جدول آلي لصرف الرواتب يمنع أي تأخير مستقبلي”.
يذكر أن خبراء عدة كانوا قد أكدوا أن أصل المشكلة يكمن في غياب استثمارات فعّالة لهذه الأموال، ما جعل الصندوق يعتمد بشكل شبه كامل على الموازنة العامة بدل أن يكون رافدا ماليا مستقلا كما هو معمول به في أغلب دول العالم.
وفي هذا السياق، يرى رئيس جمعية المتقاعدين العراقيين، مهدي العيسى أن “التوقيفات التقاعدية المستقطعة من الموظفين كان يفترض أن تضمن سيولة كافية لصرف الرواتب في مواعيدها، فضلا عن أن الصندوق كان ينبغي أن يستثمر أموال المتقاعدين كما هو معمول به في أغلب دول العالم”، لافتا إلى أن “قصر شمول الصندوق على من تم تعيينهم بعد 2008 لا يحقق العدالة لجميع المتقاعدين الذين دفعوا التوقيفات طوال سنوات خدمتهم”.
ويضيف العيسى، أن “وزارة المالية تتأخر عادة في إطلاق التمويل المخصص لهيئة التقاعد رغم أن الهيئة أنجزت معاملات الصرف وأرسلتها إلى المصارف”، مبينا أن “من غير المقبول أن تُصرف رواتب الوزارات بشكل منتظم فيما يُترك المتقاعدون في آخر القائمة”.
يذكر أن الموظفين الذين تم تعيينهم قبل عام 2008 ظلّت توقيفاتهم التقاعدية تُحوّل مباشرة إلى الخزينة العامة وتُصرف رواتبهم من الموازنة الاتحادية، بينما جرى إنشاء الصندوق لاحقا ليشمل الموظفين المعيّنين بعد ذلك العام فقط، الأمر الذي خلق شعورا بانعدام العدالة بين شريحة واسعة من المتقاعدين الذين ساهموا لسنوات طويلة بتوقيفات شهرية، لكنهم لا يستفيدون من عوائد الصندوق بشكل مباشر.
وفي ظل هذا التباين، يحذّر الخبير الاقتصادي عبد السلام حسن، من خطورة استمرار أزمة تأخر صرف رواتب المتقاعدين، مؤكدا أن “التأخير قد يقود إلى أزمة ثقة بين المواطنين والحكومة، وهو ما يحمل تداعيات سياسية واجتماعية تهدد استقرار الدولة”.
ويضيف حسن، أن “المشكلة لا تكمن في حجم الأموال بقدر ما تتعلق بضعف الإدارة الاقتصادية وغياب الكفاءات في وزارة المالية، حيث يُدار ملف الرواتب بلا برنامج واضح أو رؤية استراتيجية”، مشيرا إلى أن “المفارقة تكمن في أن رواتب بسيطة لا تتجاوز في الغالب 500 ألف دينار للمتقاعد، تُترك عرضة للأزمات، في وقت تُصرف فيه مخصصات وامتيازات ضخمة لمسؤولين وطبقة سياسية محدودة”.
ويعتبر أن “غياب الخطط الاستثمارية الفعّالة حوّل صندوق التقاعد إلى مجرد حساب يعتمد على تحويلات شهرية من وزارة المالية، بدلا من أن يكون من الأصول المالية المستقلة والمستدامة”.
وتبلغ أموال صندوق التقاعد -وفق تصريحات رسمية- أكثر من تسعة تريليونات دينار (نحو ستة ملايين دولار)، أغلبها مودعة في البنوك الحكومية.
وكانت هذه الأموال في عام 2014 على شكل حسابات جارية دون فائدة، لكن جرى تحويلها لاحقا إلى ودائع بنكية لتكون ذات فوائد تُضاف أرباحها إلى رصيد الصندوق، وفي هذا العام جرى رفع قيمة الفوائد بهدف تعزيز الإيرادات.
ويفتقر الصندوق إلى استثمارات فعّالة، يمكن أن تدرّ أرباحا طائلة، باستثناء بعض المساهمات في مصرف الناسك والمصرف العراقي للتجارة، فضلا عن مساهمات محدودة في أسهم مرتبطة بالبنك المركزي.
وأكدت هيئة التقاعد أن مجلس إدارتها يدرس حاليا خطة لتنويع الاستثمارات باتجاه قطاعات مثل الإسكان والطاقة والنفط، على أن تكون هذه المشاريع محمية بضمانات حكومية للحفاظ على أموال المتقاعدين.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!