ابحث في الموقع

القيمة القانونية للصلح العشائري في قانون العفو العام

القيمة القانونية للصلح العشائري في قانون العفو العام
القيمة القانونية للصلح العشائري في قانون العفو العام

بقلم: زينة شاكر خسرو

يعرف الصلح العشائري في العراق بانه ظاهرة اجتماعية متأصلة ومنهج لفض النزاعات وحل الخلافات، تتطلب دراسة معمقة لقيمتها القانونية ومدى اعتبارها ضمن الإطار القضائي الرسمي في بيئة قانونية تتميز بتفاعل فريد بين الأعراف والتشريعات الوضعية، يبرز التساؤل عن طبيعة هذه الممارسة هل هي مجرد آلية اجتماعية لفض النزاعات، أم أنها تكتسب قوة قانونية ملزمة تؤثر في مسار الدعاوى القضائية وتسهم في تحقيق العدالة؟ يعكس هذا التفاعل الجدلي التوازن الدقيق بين مبدأ سيادة القانون ووحدة القضاء، ومرونة العرف وفاعليته في تسوية النزاعات الاجتماعية في المجتمع العراقي. سنتناول هذه الإشكاليات في ضوء أبرز التطورات التشريعية والقضائية.

ان فهم القيمة القانونية للصلح العشائري يتطلب بداية الإشارة إلى مدى الاعتراف بالعرف كمصدر من مصادر القانون في العراق، وهو ما نصت عليه صراحة المادة الأولى من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951. هذا الاعتراف التشريعي يمنح الممارسات العرفية الراسخة كالصلح العشائري، أساسا قانونيا عاما. كما أن الدستور العراقي لعام 2005 في المادة (45) الفقرة ثانيا، يؤكد على حرص الدولة على تعزيز دور العشائر، مما يرسخ شرعية وجودها ودورها الاجتماعي، ومن ضمنه حل النزاعات.

تجدر الإشارة الى أن الصلح في القانون المدني العراقي يعرف بأنه عقد رضائي يرفع النزاع ويقطع الخصومة بتراضي الطرفين استنادا للمادة (988) من القانون المدني ذاته، وانه لا يشترط لصحته الا مجرد التراضي بين الاطراف، إلا أن الصلح العشائري يكتسب خصوصيته من بيئته الاجتماعية، حيث يتم بتدخل شيوخ العشائر ووجوهها وغالبا ما يتضمن تعويضات مالية أو تنازلات عن حقوق شخصية، والتي أجازتها المادة (704) فقرة (2) من القانون ذاته.

والسؤال الذي يثار بهذا الصدد ما هي الطبيعة القانونية لعقد الصلح العشائري هل يعد من العقود الرضائية ام من العقود الشكلية؟ ان الأصل في العقود، وفقا للمادة 73 من القانون المدني العراقي هو أنها رضائية أي تتم بمجرد توافق الإيجاب والقبول. الا الفقرة (ب) من المادة 3 من قانون العفو العام لسنة 2025 بيَن ان وثيقة الفصل العشائري الموقعة من شيوخ العشائر والمؤيدة من مديرية شؤون العشائر تعد بمثابة وثيقة تنازل للمشتكي او ذوي المجني عليه. هذا النص يشير بوضوح إلى شكلية العقد، فالنص على الوثيقة وضرورة توقيعها يلزم وجود شكل مكتوب، فالكتابة والتوقيع هما من أبرز مظاهر الشكلية التي يقتضيها القانون أو العرف لا ضفاء قوة ثبوتية وقانونية. فإرادة التنازل ,سواء المشتكي أو ذوي المجني عليه او الطرف مطلوب منه صلح لا تحدث أثرها القانوني في سياق هذا القانون إلا إذا تجسدت في شكل مكتوب وموقع.

يزداد هذا الطابع الشكلي قوةً بقيد عند نص المشرع لعبارة (المؤيدة من مديرية شؤون العشائر). فتأييد هذه الجهة الرسمية ليس مجرد إجراء إداري، بل هو بمنزلة إضفاء للصبغة الرسمية على الاتفاق العشائري، ومراجعة لمدى مطابقته للضوابط المعمول بها، مما يمنحه قوة الإثبات والاعتداد به أمام الجهات الرسمية، وهذا ما يميز العقود الشكلية التي تهدف إلى توثيق الحقوق والالتزامات وجعلها قابلة للاحتجاج بها.

وقد اكدت ذلك محكمة التمييز الاتحادية، في القرار رقم (869/ الهيئة الجزائية/ 2025 في 11/5/2025)، الذي بينت بانه تكتسب وثيقة الصلح العشائري الموثقة من مديرية شؤون العشائر الصفة القانونية كمحرر رسمي يُعتد به ويُشكل أساساً لتطبيق أحكام العفو العام. ويترتب على هذا الإقرار القضائي أن يكتسب الصلح العشائري حجية إجرائية لا يمكن الطعن فيه إلا بالتزوير.

لكن هل هذه الشكلية هي للانعقاد ام للأثبات؟ عندما ينص القانون على أن (وثيقة الفصل العشائري الموقعة والمؤيدة من مديرية شؤون العشائر تعد بمثابة وثيقة تنازل)، فإنه يربط بشكل مباشر ومطلق بين وجود هذا الشكل المحدد وبين اعتبار التنازل قائماً ومنتجاً لأثره القانوني. فلم يقل النص (إن الصلح العشائري الشفهي يعد تنازلاً، ثم إن الوثيقة هي لإثباته). بل جعل الوثيقة نفسها، بشروطها الشكلية (التوقيع والتأييد)، هي التي تعد بمثابة التنازل.

نرى ان هذا الربط الصريح يعني أن المشرع قد اشترط هذا الشكل لكي ينعقد التنازل بالشكل الذي يعتد به القانون في سياق العفو العام. لو كان الأمر مجرد إثبات، لأمكن نظرياً إثبات التنازل الشفهي بأي وسيلة إثبات أخرى إذا لم تتوفر الوثيقة، وهو ما لا يستفاد من النص اعلاه. فهو يضع شرطاً وجودياً للتنازل في هذا السياق بالذات.

خلاصة القول تكتسب وثيقة الصلح العشائري قيمة قانونية مؤثرة، بموجب الفقرة (ب) من المادة 3 من قانون العفو العام رقم 2 لسنة 2025، فهي تتجاوز كونها مجرد تسوية عرفية. إذ يعتبرها القانون وثيقة تنازل قانوني صريح، مما يعني أنها تُحدث أثراً مباشراً على الدعوى الجزائية. وهذا ما يرفع من القيمة القانونية الصلح العشائري من مستوى الممارسة العرفية إلى تصرف قانوني معترف به رسمياً، فتُعد شرطاً أساسياً للاستفادة من أحكام قانون العفو العام في القضايا التي تتطلب تنازل المشتكي أو ذوي المجني عليه، مؤكدة بذلك أهميتها البالغة في تقاطع العرف والقانون لتحقيق العدالة.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!